الجمعة، 18 مارس 2011

دروس الفلسفة السنة الثانية من سلك الباكالوريا



النظرية والتجربة


 ذ. محمد الشبة

 جاء في معجم روبير بأن النظرية " هي مجموعة من الأفكار والمفاهيم المجردة المنظمة قليلا  أو كثيرا، والمطبقة على ميدان مخصوص". وفي معنى ثان النظرية " بناء عقلي منظم ذو طابع فرضي تركيبي". كما جاء في المعجم الفلسفي لأندري لالاند بأن النظرية " هي إنشاء تأملي للفكر يربط نتائج بمبادئ". هكذا فالنظرية في معناها الاصطلاحي التأملي هي نسق من المبادئ والقوانين ينظم معرفتنا بمجالات خاصة من الواقع، ويتضمن هذا النسق بناءا منطقيا له مكوناته ويخضع لنظام فرضي استنباطي.
أما التجربة في معناها العلمي فهي مجموعة من العمليات التي يتم بمقتضاها إحداث ظاهرة ما في المختبر، بهدف دراستها والوصول إلى بناء معرفة حولها. والتجربة بهذا المعنى هي التي تمكن من معرفة القوانين المتحكمة في الظواهر الطبيعية. وتطرح علاقة النظرية بالتجربة عدة إشكالات إبيستملوجية في مجال المعرفة العلمية الدقيقة، سنثير أهمها في محاور هذا الدرس.
          المحور الأول:    التجربة والتجريب.
               * إشكال المحور:  ما هو دور التجريب في بناء النظرية؟ وهل يعتبر التجريب في معناه التقليدي المقوم الوحيد في تفسير الظواهر الطبيعية أم أن لعنصر الخيال العقلي دور في ذلك؟     
                         1- موقف كلود برنار: 
يرى كلود برنار أن إحاطة العالم بمبادئ المنهج التجريبي، التي من شأنها أن تجعله يصل إلى الحقيقة العلمية، تتطلب منه الالتزام بشرطين أساسيين: الأول يتمثل في توفره على فكرة يعمل على فحصها انطلاقا من وقائع صحيحة ومنظمة، أما الثاني فيتمثل في ضرورة استخدام العالم كل الأدوات التي من شأنها أن تمكنه من ملاحظة الظاهرة المدروسة ملاحظة كاملة وشاملة.
 هكذا يرى كلود برنار أنه على العالم الملاحظ للظواهر أن ينقل بدقة ما هو موجود في الطبيعة، إن عليه أن ينصت إلى الطبيعة، وأن يسجل ما تمليه عليه. من هنا تأتي الملاحظة في بداية المنهج التجريبي، ثم تتلوها الفكرة العقلية التي تسعى إلى تفسير الظاهرة، وبعد ذلك يتم التأكد من الفرضية المفسرة عن طريق التجربة العلمية التي تعتبر معيارا للتحقق من صحة الفرضية أو عدم صحتها.
  انطلاقا من كل هذا يحدد كلود برنار خطوات المنهج التجريبي التي تجمع بين الفكر النظري والممارسة التجريبية، حيث تأتي الملاحظة في بداية هذا المنهج لكي تتبعها فكرة عقلية منبثقة عنها، هذه الفكرة التي يتم الاستدلال عليها انطلاقا من التجربة.
 فالتجربة إذن هي منطلق بناء النظرية العلمية، وهي المعيار الوحيد لصلاحيتها.
                   2- موقف روني طوم:       
إذا كان التجريب حسب التصور التقليدي هو معيار للتحقق من الفرضية، فإن روني طوم يرى أنه لا يمكن الحديث عن فرضية علمية غير مؤسسة على نظرية سابقة. فكل نظرية تتضمن في نظره كيانات خيالية يتم التسليم بوجودها، مما يعني أن لعنصر الخيال العقلي دور كبير في التجريب العلمي. هكذا اعتبر روني طوم أنه من الوهم الاعتقاد مع أنصار النزعة التجريبية التقليدية بأن التجربة هي وحدها التي تمكننا من فهم العلاقات السببية بين الظواهر الطبيعية. فالتجريب لا يكفي وحده لفهم الظواهر الطبيعية وأسبابها، بل لا بد من إقحام عنصر الخيال العقلي الذي يعتبر تجربة ذهنية مكملة للتجربة التي تتم بواسطة الأدوات العلمية في المختبر.
هكذا يؤكد روني طوم على التكامل الحاصل بين ما هو واقعي تجريبي من جهة، وما هو عقلي خيالي من جهة أخرى؛ إذ لا يمكن للتجريب العلمي الاستغناء عن التفكير العقلي الذي يعد عملية معقدة ومتشابكة يصعب ضبطها من خلال منهج محدد.
          المحور الثاني:    العقلانية العلمية. 
               *إشكال المحور: ما هي طبيعة المعرفة العلمية المعاصرة؟ وكيف تتحدد علاقة العقل والتجربة داخل هذه المعرفة؟
                  

                         1- موقف إنشتين:
يؤكد إنشتين على أن النسق النظري للعلم المعاصر يتكون من مفاهيم ومبادئ هي إبداعات حرة للعقل البشري. من هنا فالنظرية العلمية تبنى بناءا عقليا خالصا، أما المعطيات التجريبية فهي مطالبة بأن تكون مطابقة للقضايا الناتجة عن النظرية وتابعة لها.
 هكذا يعتبر إنشتين أن العقل العلمي الأكسيومي بكل ما يتميز به من رمز وتجريد، كفيل بإنشاء النظرية العلمية، وما التجربة إلا المرشد في وضع بعض الفرضيات من جهة، وفي تطبيقها من جهة أخرى. كما يؤكد على الدور الذي أصبح يلعبه العقل الرياضي في الكشف عن النظريات العلمية ابتداءا ودون أية تجارب سابقة. فالبناء الرياضي الخالص يمكننا من اكتشاف المفاهيم والقوانين التي تعتبر مفتاحا لفهم الظواهر الطبيعية. وهذا ما يجعل العقل الرياضي هو المبدأ الخلاق في العلم، كما يجعل من العقلانية العلمية المعاصرة عقلانية مبدعة.
                  2- موقف غاستون باشلار: 
يؤكد باشلار على أهمية الحوار الجدلي بين العقل والتجربة في بناء المعرفة العلمية. تتأسس الفيزياء المعاصرة في نظره على يقين مزدوج: الأول يتمثل في أن الواقع العلمي ليس واقعا معطى عن طريق الحواس، بل هو واقع مبني بناءا عقليا ورياضيا، وهو ما يعني أن الواقع يوجد في قبضة العقل. أما اليقين الثاني فيتمثل في القول بأن بناءات العقل وبراهينه لا تتم بمعزل عن الاختبارات والتجارب العلمية. هكذا انتقد باشلار النزعة الاختبارية الساذجة التي اعتقدت أن التجربة هي مصدر بناء النظرية العلمية، كما انتقد النزعة العقلانية المغلقة التي تصورت أن العقل قادر لوحده على بناء المعرفة بشكل منعزل عن الواقع. وعلى العكس من ذلك اعتبر باشلار أن بناء المعرفة العلمية المعاصرة يتم في إطار حوار متكامل بين العقل والتجربة. هكذا فالعقل العلمي المعاصر مشروط بطبيعة الموضوعات التي يريد معرفتها، فهو ليس عقلا منغلقا ثابتا بل منفتحا على الواقع العلمي الجديد الذي يتناوله. من هنا ينعت باشلار فلسفته بالعقلانية المنفتحة وأيضا المطبقة، والتي تتم داخل وعي غير معزول عن الواقع. لكن الواقع العلمي نفسه هو واقع متحول ومبني بناءا نظريا وعقليا.
          المحور الثالث: معايير علمية النظريات العلمية.
                *إشكال المحور:  ماهو معيار علمية نظرية ما؟
                        1- موقف بيير تويليي:
إذا كان بيير دوهايم، وهو أحد أنصار النزعة التجريبية الوضعية، يرى بأن غاية النظرية الفيزيائية هو أن تمثل تماما، وبصورة صحيحة، مجموعة من القوانين التجريبية، بحيث يشكل الاتفاق مع التجربة بالنسبة للنظرية الفيزيائية المعيار الوحيد للحقيقة، فإن بيير تويليي يقول بمعيار تعدد الاختبارات كشرط أساسي للقول بعلمية نظرية ما. هكذا لا يمثل في نظره معيار القابلية للتحقق التجريبي المعيار الوحيد والنهائي لعلمية وصلاحية نظرية ما، بل لا بد من خروج النظرية من عزلتها التجريبية بإضافة فروض جديدة ترسم للموضوع الملموس، الذي يعتبر مرجع النظرية، نموذجه النظري المنسجم مع النظرية في كليتها.                                         إن أية تجربة علمية لا تتم بدون مساعدة نظريات أخرى، كما أنه لا توجد تجربة حاسمة، إذ تظل نتائج التحقق التجريبي جزئية وقابلة دائما للمراجعة. لذلك فمعيار علمية النظرية يكمن من جهة في إخضاع النظرية لاختبارات تجريبية متعددة، والعمل على المقارنة بينها، كما يكمن هذا المعيار من جهة أخرى في اختبارات التماسك المنطقي للنظرية ومقارنتها بنظريات علمية أخرى.
                      2- موقف كارل بوبر:
إن معيار علمية النظرية عند كارل بوبر هو قابليتها للتفنيد أو التكذيب. هكذا يجب على النظرية، إن شاءت أن تكون علمية، أن تكون قادرة على تقديم الاحتمالات الممكنة التي تفند بها ذاتها وتبرز الثغرات الكامنة فيها. ويرى بوبر أنه يمكن أن نطلق على معيار القابلية للتكذيب أيضا معيار القابلية للاختبار، لأن قابلية النظرية للتكذيب معناه أنه يمكن اختبارها بشكل دائم من أجل تجاوز العيوب الكامنة فيها. وهذا يدل على انفتاح النظرية العلمية ونسبيتها. أما النظرية التي تدعي أنها يقينية وقطعية ولا عيوب فيها، فهي مبدئيا غير قابلة للاختبار.

 إن الطابع التركيبي والشمولي للنظرية يجعل من المستحيل تقريبا التحقق من صدقها أو كذبها بواسطة التجربة. لذلك اقترح بوبر القابلية للتكذيب معيارا لعلمية نظرية ما، وإن لم تكذب فعلا، أي أن تتضمن في منطوقها إمكانية البحث عن وقائع تجريبية تكذبها. 


الحق والعدالة

 ذ. محمد الشبة

يدل لفظ العدالة في تداوله العام على احترام حقوق الغير والدفاع عنها، كما يدل على الخضوع والامتثال للقوانين.
وتدل العدالة في معجم لالاند على صفة لما هو عادل، ويستعمل هذا اللفظ في سياق خاص عند الحديث عن الإنصاف Equité) ) أو الشرعية légalité) ). كما يدل لفظ العدالة تارة على الفضيلة الأخلاقية، وتارة على فعل أو قرار مطابق للتشريعات القضائية. كما يدل اللفظ فلسفيا على ملكة في النفس تمنع الإنسان عن الرذائل، ويقال بأنها التوسط بين الإفراط والتفريط.
هكذا يمكن الحديث عن مستويين في العدالة:
  - مستوى يرتبط بالمؤسسات القانونية والقضائية التي تنظم العلاقات بين الناس في الواقع.
   - ومستوى يرتبط بالعدالة كدلالة أخلاقية، وكمثال أخلاقي كوني يتطلع الجميع لاستلهامه.
أما فيما يخص مفهوم الحق، فيمكن القول بأن له دلالتين رئيسيتين:
  - دلالة في المجال النظري والمنطقي؛ حيث يعني اليقين والصدق والاستدلال السليم.
  - ودلالة في المجال العملي؛ باعتباره قيمة تؤسس للحياة الاجتماعية والممارسة العملية
     للإنسان.
وهذه الدلالة الثانية هي التي تجعله يتقاطع مع مفهوم العدالة.
ويتخذ مفهوما الحق والعدالة أبعادا متعددة؛ طبيعية وأخلاقية وقانونية وسياسية، كما يرتبطا بمجموعة من المفاهيم الأخرى؛ كالطبيعة والثقافة والإنصاف والمساواة. وهو الأمر الذي سيؤدي إلى إثارة مجموعة من الإشكالات سنعالجها من خلال محاور الدرس.
المحور الأول:  الحق بين الطبيعي والوضعي.
     *إشكال المحور: هل يتأسس الحق على ما هو طبيعي أم على ما هو وضعي؟
                  1- فلاسفة الحق الطبيعي: حالة الطبيعة كمرجعية لتأسيس الحق.      
حينما نتحدث عن الحق الطبيعي، فإننا نتحدث عن مجموع الحقوق التي يجب أن يتمتع بها الإنسان بحكم طبيعته كإنسان. وقد كان رجوع فلاسفة الحق الطبيعي، كهوبز واسبينوزا وروسو، إلى حالة الطبيعة بهدف معرفة الطبيعة الإنسانية وتأسيس المجتمع انطلاقا منها، حتى تكون الحقوق والتشريعات عادلة ومناسبة لأصل الطبيعة الإنسانية، وغير متعارضة معها.
وصحيح أن هؤلاء الفلاسفة اختلفوا في تصورهم لحالة الطبيعة ولأصل الإنسان، إلا أنهم يشتركون في مبدإ أساسي هو جعل الطبيعة المفترضة للإنسان أساسا لكل حقوقه في الحالة المدنية أو الاجتماع. من هنا فللإنسان حسب هذا التصور الطبيعي للحق، حقوق لا يمكن المساس بها، وهي حقوق مطلقة وكونية.
 وإذا أخذنا نموذج هوبز مثلا، فإننا نجده يعرف حق الطبيعة بأنه الحرية التي تخول لكل إنسان في أن يسلك وفقا لما تمليه عليه طبيعته الخاصة وما يراه نافعا له. أما حالة الطبيعة فهي عنده حالة حرب الكل ضد الكل، إنها حالة صراع وعنف وفوضى. كما تصور هوبز بأن الطبيعة الإنسانية شريرة، وأن الإنسان ذئب للإنسان. وانطلاقا من هذا التصور ارتأى هوبز ضرورة تأسيس الحق في حالة الاجتماع على القوة، قوة الأمير الذي سيفرض نفسه على الجميع ويتنازل له الأفراد عن حرياتهم الطبيعية. هكذا يتأسس الحق عند هوبز على القوة وعلى ما هو طبيعي؛ لأن أساس الحق عنده نابع من تصوره لطبيعة الإنسان.
أما إذا أخذنا نموذج روسو، فإننا نجده يختلف مع هوبز في تصوره لحالة الطبيعة ولطبيعة الإنسان؛ إذ يرى أنها حالة أمن وسلام، وأن الإنسان خير بطبعه. لكنه مع ذلك يلتقي معه في رجوعه إلى حالة الطبيعة من أجل البحث عن مرجعية ومرتكز لتأسيس الحق. هكذا فمبادئ التعاقد الاجتماعي عند روسو تجد ينابيعها الأولى في الحقوق الطبيعية للإنسان. من هنا فالحق يجد أساسه عند روسو فيما هو طبيعي، أي في مجموع المواصفات التي كانت تميز حياة الإنسان في الحالة الطبيعية الأولى.
وبخلاف هذا التصور الذي يؤسس الحق على تصور معين للطبيعة الإنسانية، يأتي التصور الوضعي الذي يؤسسه على مرتكزات ثقافية ووضعية.
                2- الموقف الوضعي: تأسيس الحق على الأوضاع السائدة داخل كل مجتمع. 
ترفض النزعة الوضعية القانونية تأسيس الحق على أية اعتبارات ميتافيزيقية وطبيعية، وتؤسسه‘ بخلاف ذلك‘ على اعتبارات واقعية وثقافية. هكذا يرى هانز كيلسن، أحد ممثلي هذه النزعة، أنه لا وجود لحق غير الحق الوضعي الفعلي الذي يتحدد انطلاقا من اعتبارات واقعية، ومن موازين القوى المتصارعة على أرض الواقع. وهذا ما يضفي على الحق طابع النسبية والتغير، ويجعل من غي الممكن الحديث عنه خارج إطار القوانين المتجسدة في المؤسسات القضائية والتنفيذية التي تفرضه في الواقع.
وفضلا عن هذا، يرى كيلسن أن هناك اختلاف في المرجعيات السيكولوجية والاجتماعية والثقافية بين الناس، مما ينعكس على تصورهم لأساس الحق، ويجعل هذا الأخير يختلف باختلاف المبادئ التي يرتكز عليها.  
   وإذا كان الحق لا يتجسد إلا من خلال القوانين التي من المفترض أنها وضعت بهدف تحقيق العدالة والإنصاف والمساواة بين الأفراد، فإن هذا يثير إشكال العلاقة بين الحق والعدالة.
  المحور الثاني:  العدالة كأساس للحق.
        *إشكال المحور: كيف تتحدد علاقة الحق بالعدالة؟ وهل يمكن اعتبار العدالة أساسا للحق؟ وهل هناك وجود للحق خارج إطار القوانين التشريعية والقضائية الممثلة للعدالة؟
                    1- موقف اسبينوزا: قوانين العدالة كتجسيد للحق.
اعتبر اسبينوزا أن هناك مبدأ تقوم عليه الدولة الديمقراطية، وهو تحقيق الأمن والسلام للأفراد عن طريق وضع قوانين عقلية تمكن من تجاوز قوانين الشهوة التي هي المصدر الأساسي لكل كراهية وفوضى. من هنا يتحدث اسبينوزا عن القانون المدني الذي تحدده السلطة العليا، والذي يجب على الأفراد احترامه للمحافظة على حرياتهم ومصالحهم المشتركة. وهذا القانون هو الذي تتجسد من خلاله العدالة التي تتمثل في إعطاء كل ذي حق حقه. ولهذا يدعو اسبينوزا القضاة المكلفين بتطبيق القانون إلى معاملة الناس بالمساواة والإنصاف، من أجل ضمان حقوق الجميع، وعدم التمييز بينهم على أي أساس طبقي أو عرقي أو غيره.
هكذا يبدو أنه لا يمكن تصور عدالة خارج إطار مبادئ العقل المجسدة في القانون المدني الذي تتكفل الدولة بتطبيقه، كما لا يمكن تصور تمتع للناس بحقوقهم خارج قوانين العدالة. فالعدالة والحالة هاته، هي تجسيد للحق وتحقيق له؛ إذ لا يوجد حق خارج عدالة قوانين الدولة. أما خارج هذه القوانين التي يضعها العقل، فإننا نكون بإزاء العودة إلى عدالة الطبيعة التي استحال فيها تمتع الجميع بحقوقهم المشروعة في الحرية والأمن والاستقرار.
   لكن ألا يمكن أن نعتبر أن الحق يسمو على قوانين العدالة وتشريعاتها القضائية، وأن هذه الأخيرة قد تكون جائرة وهاضمة للحقوق المشروعة للأفراد؟
معنى ذلك أنه يجب البحث عن أساس آخر للحق غير العدالة وقوانينها؟
                 2- موقف شيشرون: لا يتجسد الحق دائما من خلال قوانين الشعوب. 
يرى شيشرون أن المؤسسات والقوانين لا يمكن أن تكون أساسا للحق، مادام أن هناك قوانينا يضعها الطغاة لخدمة مصالحهم الخاصة وتهضم حقوق بقية الناس. ولذلك يجب تأسيس الحق والعدالة تأسيسا عقليا؛ إذ أن الحق الوحيد هو الذي يؤسسه قانون واحد مبني على قواعد العقل السليم الذي يشرع ما يجب فعله وما يجب اجتنابه. ومن جهة أخرى يذهب شيشرون إلى القول بأنه "لن توجد عدالة ما لم توجد طبيعة صانعة للعدالة"، وهذه هي الطبيعة الخيرة التي تتمثل في ميلنا إلى حب الناس الذي هو أساس الحق. و " طالما لم يقم الحق على الطبيعة فإن جميع الفضائل ستتلاشى". هكذا يبدو أن شيشرون يؤسس الحق تأسيسا عقليا وأخلاقيا، ويعترض على تأسيسه انطلاقا من المنافع الخاصة وما هو حاصل على أرض الواقع. 
 لكن المشكل الذي تطرحه نظرية شيشرون هو طابعها المثالي؛ إذ أن الناس في الواقع لا تصدر عنهم دائما سلوكات خيرة إما بسبب نزوعاتهم العدوانية كما يرى البعض، أو بسبب الصراع حول المصالح كما يرى البعض الآخر.
وإذا كان الناس متفاوتين في الواقع بسبب الاختلافات الموجودة بينهم في المؤهلات والمزايا والمراتب الاجتماعية وغير ذلك، فهل يجب أن نطبق عليهم القوانين بالتساوي أم يجب مراعاة روح هذه القوانين لإنصاف كل واحد منهم؟
  المحور الثالث: العدالة بين المساواة والإنصاف.
         *إشكال المحور:  هل ينبغي تطبيق العدالة بين الناس بالتساوي، بحيث يكون الجميع أمامها سواسية، أم يجب إنصاف كل واحد منهم بحسب تميزه عن الآخرين؟ وبتعبير آخر؛ إذا كانت العدالة تهدف إلى خلق المساواة في المجتمع، فهل بإمكانها إنصاف جميع أفراده؟
                 1- موقف ألان (إميل شارتيي): العدالة هي معاملة الناس بالمساواة.
  لا يمكن الحديث‘ حسب ألان، عن الحق إلا في إطار المساواة بين الناس. فالقوانين العادلة هي التي يكون الجميع أمامها سواسية. والحق لا يتجسد إلا داخل المساواة باعتبارها ذلك الفعل العادل الذي يعامل الناس بالتساوي بغض النظر عن التفاوتات القائمة بينهم. وهنا يتحدث ألان عن السعر العادل ويميزه عن سعر الفرصة؛ بحيث أن الأول هو المعلن داخل السوق والذي يخضع له الجميع بالتساوي، بينما الثاني هو سعر يغيب فيه التكافؤ بين الطرفين؛ كأن يكون أحدهما مخمورا والآخر واعيا، أو يكون أحدهما عالما بقيمة المنتوج والآخر جاهلا بذلك.
هكذا فالمساواة لن تتحقق حسب ألان إلا إذا عرض الباعة لكل الناس نفس السلع وبثمن موحد. ومعنى ذلك أن العدالة لن تتحقق إلا كانت القوانين الجاري بها العمل تعامل الناس بالمساواة التي هي أساس إحقاق الحق.
 وفي هذا الإطار يقول ألان: " لقد ابتكر الحق ضد اللامساواة. والقوانين العادلة هي التي يكون الجميع أمامها سواسية... أما أولائك الذين يقولون إن اللامساواة هي من طبيعة الأشياء، فهم يقولون قولا بئيسا".
ومثل هذا القول "البئيس" هو الذي نعتقد أنه يقول به ماكس شيلر.
                2- موقف ماكس شيلر: المطالبة بالمساواة المطلقة هي عدالة جائرة.
   يذهب ماكس شيلر إلى القول بأن العدالة لا تتمثل في المطالبة بالمساواة المطلقة بين الناس؛ لأنها مساواة جائرة ما دامت لا تراعي الفروق بين الأفراد فيما يخص الطبائع والمؤهلات التي يتوفرون عليها. فالعدالة المنصفة هي التي تراعي اختلاف الناس وتمايز طبائعهم ومؤهلاتهم. ومن الظلم أن نطالب بالمساواة المطلقة بين جميع الناس؛ ذلك أن وراء هذه المطالبة بالمساواة كراهية وحقد على القيم السامية، ورغبة دفينة في خفض مستوى الأشخاص المتميزين إلى مستوى الأشخاص الذين هم في أسفل السلم.
هكذا ينتقد ماكس شيلر ما يسميه بالأخلاقية الحديثة التي تقول بأن جميع الناس متساوون أخلاقيا، وبالتالي تنفي التفاوتات الموجودة بينهم على مستوى ما يتوفرون عليه من مؤهلات. ويرى أن هذه المساواة المطلقة هي فكرة عقلانية نابعة من حقد وكراهية الضعفاء ومن هم في أسفل درجات السلم تجاه الأقوياء الذين يمتلكون مؤهلات وقدرات أكثر من غيرهم تجعلهم يتواجدون في أعلى السلم الاجتماعي. وبدلا من هذه الأخلاق العقلانية التي تنادي بالمساواة الصورية والنظرية، يقترح شيلر ما أسماه بالأخلاق الموضوعية التي تأخذ بعين الاعتبار الفوارق بين الناس على أرض الواقع. وهنا تكمن العدالة المنصفة التي تحافظ على القيم السامية التي يتمتع بها الأشخاص المتفوقون.



الواجب

 ذ. محمد الشبة



إن الإنسان حيوان أخلاقي، ولذلك فتميزه بهذه الصفة جعله يطرح السؤال الأخلاقي التالي: ما الذي ينبغي أن نعمله؟ وفي هذا الإطار استثمر الإنسان عقله الأخلاقي العملي من أجل تشريع قوانين لسلوكه، وسن واجبات لتحقيق الغايات المنشودة من أفعاله. وإذا كان الواجب كلفظ يحيل إلى معنى الإكراه والإلزام، فإنه مع ذلك يعبر عن سمو الإنسان وحريته والتزامه بما يشرعه لنفسه. وإذا كان الوعي الأخلاقي سمة من سمات الكائن البشري، باعتباره ما يسمح له بالتمييز بين الخير والشر، فإن هناك من جعل أساس هذا الوعي في الفطرة البشرية، وهناك من أرجعه إلى العقل، وهناك من عاد به إلى منشئه التاريخ في إطار الصراع حول المصالح. وأمام هذا التعدد في المرجعيات التي تحكم الواجب، نجد أنفسنا أحيانا أمام واجبات ترتبط بسلطة مجتمع ما وظروفه الخاصة، مما قد يؤدي إلى انغلاق القيم الأخلاقية ودخولها في صراع مع مرجعيات أخلاقية أخرى، وهذا أمر يحتم ضرورة المراهنة على أخلاق كونية تؤسس لواجب الإنسان إزاء الإنسان .
المحور الأول: الواجب والإكراه .
* إشكال المحور: هل يمكن أن يكون الواجب حرا أم أن قبوله لا يتم سوى تحت الإكراه؟ وهل يستمد الواجب سلطته من وازع عقلي داخلي أم يستمدها من إلزام خارجي؟
1- موقف هيوم: الواجب إلزام صادر عن المنفعة وضرورات المجتمع .
يرى دفيد هيوم أنه لا يمكن تأسيس الأخلاق على دعامة من العقل وحده، لأن الأحكام الأخلاقية خاضعة للعرف والعادة والبيئة الاجتماعية. هكذا فجريمة واحدة قد تصادف أحكاما مختلفة باختلاف الظروف والأحوال. فالحكم على الأفعال بالخير أو الشر راجع إلى عاطفة أو إحساس نابع من التجربة والمجتمع اللذين يجعلان الإنسان يتشبث بالحسن لما يجلبه له من منفعة، ويبتعد عن القبيح لما يجلبه له من ضرر .
ويقسم هيوم الواجبات الأخلاقية إلى نوعين: الواجبات الأولى هي تلك التي يقوم بها الناس بدافع غريزي طبيعي، وبدون أي إلزام أو سعي نحو تحقيق منفعة ما؛ مثل حب الأطفال والعطف على المحتاجين. أما الواجبات الثانية فهي تلك التي تكون صادرة عن إلزام نابع من ضرورة المحافظة على المجتمع البشري .
هكذا فالطابع الإلزامي للواجب عند هيوم مرتبط بالآثار المترتبة عنه على مستوى الحياة الاجتماعية. والتجربة وحدها هي التي تبين لنا مدى ما نجنيه من منفعة أو فائدة إذا ما تقيدنا بأوامر الواجب .
من هنا فالتجربة والتفكير المرتبط بها هما اللذان يمارسان الرقابة على الميولات الذاتية والغريزية، ويجعلانها خاضعة للأحكام الصادرة عن الواجب .
إن إلزامية الواجب إذن صادرة، حسب هيوم، عن دوافع خارجية، كما أنها ترتبط بالمنفعة وبالنتائج المفيدة المترتبة عنها. وهو الأمر الذي سيرفضه إيمانويل كانط .
2- موقف كانط: الواجب التزام حر، نابع من الذات وغير مشروط .
يرى كانط أن الإنسان حينما يخضع للقوانين التي يمليها الواجب الصادر عن العقل، فإنه لا يخضع سوى لتشريعه الخاص، ولا يتصرف إلا طبقا لإرادته الخاصة. هذه الإرادة التي تتميز بالاستقلال الذاتي، لأنها تشرع لنفسها في استقلال عن أية شروط أو غايات خارجية .
ويرى كانط من جهة أخرى بأن الإرادة لا تخضع دوما لأوامر العقل، لذلك يمارس عليها هذا الأخير نوعا من الإكراه، إلا أنه إكراه حر؛ مادامت الإرادة تخضع للقانون الأخلاقي الصادر عن العقل من أجل مقاومة التأثير الذي تمارسه الميولات الغريزية من جهة، ومن أجل المحافظة على كرامة الإنسان واحترامه من جهة أخرى .
ويميز كانط بين نوعين من الأوامر الأخلاقية؛ أوامر أخلاقية شرطية ترتبط بالنتائج التي تتطلبها الضرورات العملية، فتكون الواجبات في هذه الحالة مجرد وسائل لتحقيق غايات معينة؛ كأن نقول الصدق من أجل أن نكسب ثقة الناس، وأوامر أخلاقية قطعية أو مطلقة، وهي تلك التي تنظر إلى الأفعال في ذاتها لا من حيث النتائج المترتبة عنها؛ كأن نقول الصدق دائما لأنه واجب أخلاقي صادر عن العقل العملي .
هكذا فالواجب المرتبط بهذه الأوامر الأخيرة يتميز بكونه غير مشروط بأية نتائج منتظرة، فهو يحمل غايته في ذاته، كما أنه ذا صبغة كونية وشمولية. وهو زيادة على ذلك يتسم بطابعه الصوري والعقلي المجرد .
وبالرغم من هذا الطابع الصوري والكوني للواجب الأخلاقي عند كانط، فهو يعبر عن حرية الإنسان والتزامه بقوانين كونية نابعة من العقل، كما يجعله يتصرف كما لو كان في نفس الوقت مشرعا وفردا في مملكة الإرادة .

المحور الثاني: الوعي الأخلاقي .
* إشكال المحور: ما هو مصدر الوعي الأخلاقي؟ وأين يجد أساسه ومبدأه؟ وكيف يتأتى للإنسان الوعي بالأوامر الأخلاقية؟ وكيف له أن يميز بين الخير والشر؟
1- موقف روسو: الفطرة كأساس للوعي الأخلاقي .
إن أساس الوعي الأخلاقي عند روسو هو مبدأ فطري يمكن الإنسان من التمييز بين الخير والشر. وهذا المبدأ هو ما ينعته روسو بالوعي الأخلاقي الذي يصدر عن إحساس عميق في النفس البشرية، يمكنها من إصدار أحكام على الأفعال ووصفها بالخيرة أو الشريرة .
هكذا فمصدر الوعي الأخلاقي هو إحساس داخلي متأصل في الطبيعة الإنسانية، وهو الذي يميزها عن طبيعة أي كائن آخر. وهذا ما يجعل الاجتماع البشري لا يتأسس فقط على الحاجيات البيولوجية وضروريات العيش، بل يتأسس أيضا على الروابط الأخلاقية التي تجد مرتكزها في الأحاسيس الفطرية التي تميز الكائن البشري، وتدله على ما هو خير وما يسمح له بتأسيس علاقته مع ذاته ومع الآخرين في إطار أخلاقي وإنساني .
ويميز روسو بين معرفة الخير ومحبته؛ فمعرفة الخير هي معرفة عقلية مكتسبة، لكن محبته هي نابعة عن إحساس فطري لدى الإنسان. من هنا فالوعي الأخلاقي عند روسو هو غريزة إلهية خالدة ومعصومة، وهي الضامنة والمرشدة للإنسان بحيث تمكنه من التمييز بين الخير والشر، وتمنح أفعاله صبغة أخلاقية متميزة .
وإذا كان روسو يؤسس الوعي الأخلاقي على الفطرة والغريزة، فإنه يتجاهل الظروف التاريخية والعوامل الاجتماعية التي تقف وراء نشأة الوعي الأخلاقي. وهو ما أكد عليه مجموعة من الفلاسفة، ومن بينهم نيتشه .
[ ملاحظة: يمكن استثمار موقف كانط في هذا المحور الثاني، باعتبار أن كانط يجعل مصدر الواجب في العقل ويؤسسه على القانون الأخلاقي الصادر عنه ...]
2- موقف نيتشه: يجد الوعي الأخلاقي أساسه في العلاقات التجارية الأولى بين الناس .
لقد كشف نيتشه من خلال بحثه الجينيالوجي عن أصل الأخلاق ومنشئها، عن الأحداث التاريخية الأولى والحقيقية التي كانت وراء تبلور ما يسمى بالوعي الأخلاقي .
هكذا فقد نشأ الوعي الأخلاقي في إطار علاقة تجارية بين الدائن والمدين؛ حيث أن هذا الأخير عجز عن أداء ما عليه من دين للأول، باعتباره واجبا عليه، فعوض له ذلك بخضوعه له وانصياعه لأوامره. من هنا فأصل الوعي الأخلاقي، وبالتالي أصل الخير والشر، هو تلك القيم والواجبات التي وضعها الدائنون ليعاقبوا بها المدينين ويصبحوا سادة عليهم .
إن العقاب في هذه الحالة لم يتخذ شكل تعويض مالي أو عقاري، وإنما اتخذ شكل عقاب معنوي وأخلاقي. وقد ترتب عنه ظهور مبادئ وواجبات وأوامر يكون لزاما على المستضعفين الخضوع لها من أجل المحافظة على حياتهم .
وهكذا وبدل تعويض الدين مباشرة، تم تعويضه بشكل غير مباشر عن طريق تخلي المدين العاجز لسلطة القرار لصالح الدائن، الذي أصبح منذ هذه اللحظة، وبفضل قوته وجبروته، يصدر الأوامر ويمارس مختلف أشكال العقاب على من هم تحت سيطرته .
هذه إذن هي العلاقة التاريخية الأولى التي كانت وراء تشكل الوعي الأخلاقي، في نظر نيتشه، غير أن العبيد والمستضعفين فيما بعد عملوا على قلب القيم الأخلاقية وإعطائها معاني جديدة تخدم مصالحهم .
← يتبين إذن، مع نيتشه، كيف أن الوعي الأخلاقي ذو جذور تاريخية وتجارية؛ إذ أنه يجد مرتكزاته في الصراع الذي حصل بين الناس حول المصالح الاجتماعية والاقتصادية. ولذلك فالإنسان لا يلتزم بالواجبات الأخلاقية في ذاتها، كما لا تكتسي هذه الواجبات صبغة ثابتة ومطلقة، بل إنه يتوخى النتائج النافعة المترتبة عن تلك الواجبات، مما يضفي عليها طابع النسبية والتغير .
وهذه الفكرة الأخيرة تقودنا إلى إشكال الواجب بين المطلق والنسبي؛ فهل يرتبط الواجب بكل مجتمع على حدة فيتخذ طابع النسبية، أم أنه مطلق ويتعلق بالإنسانية ككل؟

المحور الثالث: الواجب والمجتمع .
*إشكال المحور: هل الواجب الأخلاقي هو مجرد صدى لصوت المجتمع أم أنه يتجاوزه إلى مستوى الإنسانية ككل؟ وهل هو خاص يتعلق بكل مجتمع على حدة أم أنه كوني يتعلق بجميع الناس؟ وهل الفرد ملزم بواجبات نحو مجتمعه فقط أم بواجبات نحو الإنسانية أيضا؟
1- موقف دوركايم: الواجب الأخلاقي هو ترديد لصوت المجتمع .

[ملاحظة: يمكن استثمار موقف دوركايم أيضا في المحورين السابقين؛ حيث أن دوركايم يقول بإلزامية الواجب الأخلاقي وخارجيته في حين أن كانط يقول بالالتزام الصادر من داخل الذات. أما في المحور الثاني فإن دوركايم يحدد أساس الوعي الأخلاقي في المجتمع أو ما يسميه بالضمير الجمعي ...]
إن مصدر الواجب عند دوركايم هو المجتمع الذي هو كائن معنوي يتجاوز الأفراد ويؤثر فيهم. هكذا فلدى الأفراد مشاعر عديدة تعبر عن صوت المجتمع الذي يحيى داخل ذواتهم، ويمارس عليهم نوعا من القهر والإكراه الخفي. إن المجتمع بهذا المعنى ، هو جزء لا يتجزأ من الذوات الفردية التي لا تستطيع أبدا الانفصال عنه؛ فهو الذي بث فيها تلك المشاعر والمعايير التي تحدد لها واجباتها الأخلاقية، أي ما ينبغي عليها فعله وما يجب تجنبه. فالضمير الأخلاقي إذن هو تعبير عن صوت المجتمع، وهو يتردد داخل الذات الفردية بلغة الآمر والناهي، مما يجعله يتمتع بسلطة قاهرة ويمنح بالضرورة لقواعد السلوك الفردي صفة الإكراه المميزة للإلزام الأخلاقي .
لكن إذا كان الواجب يرتبط بالمجتمع وبإكراهاته، فإنه بذلك يسقط في الانغلاق والنسبية؛ مادام أن لكل مجتمع خصوصيته الثقافية والحضارية التي تميزه عن باقي المجتمعات. كما أن الواجب في هذه الحالة من شأنه أن يؤدي نوع من الصدام الحضاري، والصراع الفكري والأخلاقي بين الأمم والشعوب .
فهل يمكن أن نرتقي بالأخلاق إلى مستوى الكونية ونخرجها من انغلاقها لتنفتح على القيم والواجبات الإنسانية؟
2- موقف برجسون: من الواجب إزاء المجتمع إلى الواجب إزاء الإنسان .
يرى برجسون أنه بالرغم من أن المجتمع يتكون من إرادات فردية حرة، فإن هذه الإرادات تؤلف في انتظامها جهازا عضويا يرسخ أنساقا من العادات الجماعية التي تمارس إلزامها وسلطتها على الأفراد .
هكذا فالمجتمع هو الذي يحدد للفرد واجباته وقواعد سلوكه اليومي. ويتم خضوع الفرد للمجتمع بنوع من الآلية والعفوية التي لا يكاد يشعر الأفراد خلالها بذلك الضغط الممارس عليهم من قبل المجتمع. غير أن هذه الواجبات تتحول إلى عادات محدودة وذات طابع سكوني ومنغلق، مما يحتم ضرورة، حسب برغسون، الانتقال بها إلى مجال المجتمع المفتوح الذي هو الإنسانية ككل .
إن علينا واجبات نحو الإنسان كإنسان، كاحترام حياة الآخرين واحترام حرياتهم ومعتقداتهم، ولذلك يجب ترسيخ قيم وواجبات كونية من شأنها أن ترسخ السلم والتسامح بين كل أفراد بني الإنسان .




الغير

 ذ. محمد الشبة

جاء في معجم روبير بأن "الغير هم الآخرون من الناس بوجه عام". كما نجد تحديدا في معجم لالاند الفلسفي جاع فيه مايلي: "الغير هو آخر الأنا، منظورا إليه ليس بوصفه موضوعا، بل بوصفه أنا آخر". ويقول جان بول سارتر: "الغير هو الآخر، الأنا الذي ليس أنا". انطلاقا من هذه التحديدات يمكن أن نلاحظ بأن الغير هو مخالف ومشابه للأنا في نفس الوقت؛ إنه مماثل له في الإنسانية، أي يتمتع مثله بمقومات الشخص من وعي وحرية وكرامة وغير ذلك. لكنه مع ذلك يختلف عنه في الكثير من الخصائص المتعلقة بالجوانب السيكولوجية والاجتماعية والثقافية وغير ذلك. وإذا كان ديكارت قد جعل الأنا منغلقا على ذاته؛ يعيش نوعا من العزلة الأنطلوجية والإيبيستيمية، فإن هيغل أعاد الاعتبار للغير واعتبر وجوده ضروريا بالنسبة لوجود الأنا ووعيه بذاته. انطلاقا من هنا يطرح السؤال التالي: ماذا يشكل وجود الغير بالنسبة لوجود الأنا؟ أو ما الذي يميز وجود الغير بالنسبة لوجود الأنا؟ وإذا كانت معرفة الموضوعات الطبيعية ممكنة بفضل تطور العلوم الدقيقة، فإن معرفة الغير كوعي آخر تطرح العديد من الصعوبات؛ فهل معرفة الغير ممكنة؟ وكيف تتم معرفته بوصفه وعيا؟ غير أن العلاقة بين الأنا والغير لا تنحصر في المستوى المعرفي، بل تتجلى في مستويات عدة؛ عاطفية وأخلاقية واجتماعية...فما هي طبيعة العلاقة التي يجب أن تسود داخل هذه المستويات بين الأنا والغير؟ وعلى ماذا يجب أن تتأسس هذه العلاقة؟
                    І- وجود الغير:  
          *إشكال المحور: ماذا يشكل وجود الغير بالنسبة لوجود الأنا؟ وما مميزات
                                   الوجود مع الغير؟
                              1- موقف مارتن هايدغر:
يحلل هايدغر معنى الوجود مع الآخرين، فيخلص إلى أن الذات تفقد تميزها وهويتها كاختلاف عندما تدخل في حياة مشتركة مع الغير. هكذا يتميز الوجود مع الغير بخاصية التباعد الذي قد يعني غياب تفاهم وتعاطف بين الأنا والغير.فالأنا في علاقته مع الغير يوجد تحت قبضته وسيطرته، بحيث يقوم هذا الأخير بإفراغ الأنا من إمكانياته ومميزاته الفردية ويجعله تابعا له.
إن الغير يمارس على "الموجود هنا" هيمنة خفية، خصوصا وأن مفهوم الغير غير محدد بدقة بحيث أن الذات هي الأخرى جزء منه، وبانتمائها له تزيد من هيمنته وسلطته عليها. ويتجلى هذا الانتماء في وجود روابط عرفية وقانونية مشتركة بين الأنا والغير، وهي التي يستثمرها هذا الأخير من أجل بسط هيمنته على الذات وإحكام قبضته عليها. ويؤكد هايدغر على خاصية التشابه أو اللاتمييز التي توجد بين الأنا والغير، بحيث تذوب الذات في الغير وتفقد تميزها وتفردها الخاص. هكذا يعمل الآخرون على خلق ذوات متشابهة، ويساهمون في اختفاء هوية الفرد وذوبانه في حياة الجماعة.
                              2- موقف جان بول سارتر:
يرى سارتر أن وجود الغير ضروري من أجل وجود الأنا ومعرفته لذاته، وذلك واضح في قوله: "الغير هو الوسيط الضروري بين الأنا وذاته". من هنا فالغير هو عنصر مكون للأنا ولا غنى له عنه في وجوده. غير أن العلاقة الموجودة بينهما هي علاقة تشييئية، خارجية وانفصالية ينعدم فيها التواصل مادام يعامل بعضهما البعض كشيء وليس كأنا آخر. هكذا فالتعامل مع الغير كموضوع مثله مثل الموضوعات والأشياء يؤدي إلى إفراغه من مقومات الوعي والحرية والإرادة. ويقدم سارتر هنا مثال النظرة المتبادلة بين الأنا والغير؛ فحين يكون إنسان ما وحده يتصرف بعفوية وحرية، وما إن ينتبه إلى أن أحدا آخر يراقبه وينظر إليه حتى تتجمد حركاته وأفعاله وتفقد عفويتها وتلقائيتها. هكذا يصبح الغير جحيما، وهو ما تعبر عنه قولة سارتر الشهيرة:"الجحيم هم الآخرون".
إن نظرة الغير إلي تشلني من إمكانياتي ومقوماتي كأنا، فتعمل على تجميد حركاتي وتسلبني إرادتي وحريتي. إن نظرة الغير إلي تقلقني لأنها مصحوبة بتقديرات لا يمكن معرفتها، خصوصا التقديرات المرتبطة بأحكام القيمة.
هكذا يتحدد وجود الغير مع الأنا من خلال عمليات الصراع والتشييء والاستلاب. لكن مع ذالك يعتبر سارتر أن وجود الغير شرط ضروري لوجود الأنا و وعيه بذاته بوصفه ذاتا حرة ومتعالية.  
                        ІІ- معرفة الغير: 
         *إشكال المحور: هل معرفة الغير ممكنة؟ وكيف يتم إدراك الغير ومعرفته
                                 بوصفه وعيا؟ 
                            
                             1- موقف ماكس شيلر:
يرى ماكس شيلر أن معرفة الغير ممكنة، وأنها معرفة تتم من خلال الإدراك الكلي الذي يجمع بين إدراك المظاهر الجسمية الخارجية وإدراك الحالات النفسية والفكرية الداخلية.هكذا فمعرفة الغير لا تتم من خلال تقسيمه إلى ظاهر وباطن، إلى جسم وروح؛ بحيث أن الأول يدرك خارجيا، والثانية تدرك داخليا، إن معرفة بهذا الشكل غير ممكنة لأن الغير كلا لا يقبل القسمة، ومعرفته لا تتم إلا بوصفه كذلك.
من هنا يرى شيلر أنه لا يمكن تجزيء ظاهرة التعبير لدى الإنسان إلى وحدات صغرى لإعادة تركيبها لاحقا، بل يجب إدراكها كوحدة غير قابلة للقسمة إلى أجزاء. فمعرفة الغير لا تتم من خلال الملاحظة والاستقراء العلميين، لأن نمط معرفة الغير كأنا آخر غير مماثلة لنمط المعرفة المتعلقة بالظواهر الطبيعية، بل إنها معرفة تتم من خلال التعاطف معه، والنفوذ إلى أعماقه من خلال الترابط الموجود بين تعبيراته الجسدية ومشاعره الباطنية؛ فحقيقة الغير تبدو مجسدة فيه كما يبدو ويتجلى للأنا، حركات التعبير الجسدية لديه حاملة لمعناها ودلالاتها مباشرة كما تظهر؛ الباطن يتجلى عبر الظاهر ولا انفصال بينهما.
                             2- موقف غاستون بيرجي:
يجسد غاستون بيرجي موقفا يرى من خلاله أن معرفة الغير غير ممكنة، لأن بينه وبين الأنا جدارا سميكا لا يمكن تجاوزه. هكذا فتجربة الأنا الذاتية معزولة وغير قابلة أن تدرك من طرف الغير. فالأنا يعيش تجربة حميمية مع الذات تحول دون تحقيق أي تواصل بينه وبين الغير. فلا يمكن للآخرين اختراق وعيي، كما لايمكنني نقل تجربتي الداخلية لهم حتى ولو تمنيت ذلك، لأنني أشعر بالعزلة وأعيش في قلعة منيعة يستعصى على الغير اقتحامها. وهذه العزلة متبادلة بين الأنا والغير؛ فمثلما أن أبواب عالمي موصدة أمامه، فكذلك أبواب عالمه موصدة أمامي. ويتبين هذا من خلال تجربة الألم مثلا؛ فعندما يتألم الغير ويبكي أواسيه وأشاطره المعاناة، غير أنني لا يمكنني أبدا أن أعيش بنفس الكيفية تجربة بكائه الذاتية، لأنها تجربة شخصية خاصة به وحده دون غيره من الناس.
 هكذا فبالرغم من سعي الإنسان الدؤوب نحو تحقيق التواصل مع الغير، كحاجة ملحة داخله، فإن الغير يظل سجينا في آلامه ومنعزلا في ذاته ووحيدا في موته.
                          ІІ- العلاقة مع الغير:
           * إشكال المحور: ماهي الرهانات التي تنشأ عن علاقة الأنا بالغير؟ وعلى
                                   ماذا تتأسس هذه العلاقة؟
                              1- موقف إيمانويل كانط:  
يؤسس كانط العلاقة بين الأنا والغير على مبادئ أخلاقية وعقلية كونية. ويتجلى ذلك من خلال حديثه عن الصداقة باعتبارها علاقة تقوم على مشاعر الحب والاحترام المتبادلة بين شخصين. وغاية الصداقة، في صورتها المثلى، هي غاية أخلاقية طيبة، تتمثل في تحقيق الخير للصديقين معا. وقد اعتبر كانط الصداقة واجبا عقليا يجب على الإنسان السعي نحو تحقيقه، وإن كان يتعذر تحقيقها في صورتها المثلى على أرض الواقع. كما تتطلب العلاقة مع الغير مراعاة المساواة بين عناصر الواجب الأخلاقي؛ بين مشاعر الحب من جهة، باعتبارها قوة جذب وتجاذب بين الصديقين، ومشاعر الاحترام من جهة أخرى، باعتبارها قوة دفع وتباعد بينهما.
لذلك يجب أن تكون مشاعر الصداقة متبادلة بين الصديقين، ومبنية على أساس أخلاقي خالص، وليس على أي منافع آنية ومباشرة.
                          2- موقف أوغست كونت:
إذا كان كانط قد أسس العلاقة بين الأنا والغير على أسس نظرية، مثالية وميتافيزيقية تنبني على ما ينبغي أن يكون وليس على ما هو كائن، فإن أوغست كونت على العكس من ذلك بنى أسس هذه العلاقة على استقراءات واقعية تترصد ما يحدث على مستوى الواقع الاجتماعي الفعلي. هكذا اعتبر كونت أن هناك واقعة يتعذر تجاوزها، وهي أن الإنسان يحيى بفضل الغير؛ بحيث لا يمكن للفرد مهما أوتي من قوة ومهارة أن يرد ولو جزءا بسيطا للإنسانية مقابل ما تلقاه منها. ويترتب عن هذه الواقعة أنه يجب على الإنسان أن يحيى من أجل الغير، عن طريق نكران الذات والتضحية من أجل الآخرين، من أجل ترسيخ قيم التعاطف والتضامن سعيا وراء تطوير الوجود البشري.
هكذا تعمل الغيرية على تهذيب الغريزة البشرية وتسييجها؛ فتطهر الفرد من أنانيته الهمجية وتكبح ميولاته المصلحية الضيقة، كما تعمل هذه الغيرية على الارتقاء بالأخلاق الإنسانية إلى مستوى من الفهم يتجاوز كل المقاربات اللاهوتية والميتافيزيقية.



الدولة

 ذ. محمد الشبة

ينظر إلى الدولة على أنها تنظيم سياسي يكفل حماية القانون وتأمين النظام لجماعة من الناس تعيش على أرض معينة بصفة دائمة، وتجمع بين أفرادها روابط تاريخية وجغرافية وثقافية مشتركة. ولذلك لا يمكن الحديث عن الدولة في مجال ترابي معين إلا إذا كانت السلطة فيها مؤسساتية وقانونية، وأيضا مستمرة ودائمة لا تحتمل الفراغ.
كما يقترن اسم الدولة بمجموع الأجهزة المكلفة بتدبير الشأن العام للمجتمع. هكذا تمارس الدولة سلطتها بالاستناد إلى مجموعة من القوانين والتشريعات السياسية التي تروم تحقيق الأمن والحرية والتعايش السلمي.
  وهذا ما يجعلنا نتساءل عن المشروعية التي تتأسس عليها الدولة من جهة، وعن الغاية من وجودها من جهة أخرى؟
 كما تدفعنا إلى التساؤل عن طبيعة ممارسة الدولة لسلطتها السياسية؟ وعن مدى مشروعية الدولة في استخدام العنف؟
         المحور الأول:    مشروعية الدولة وغاياتها
      فيما يخص مفهوم المشروعية، ينبغي التمييز بين ما هو مشروع légitime) ) يستهدف إحلال العدل والحق، ومن ثمة فهو يشير إلى ما ينبغي أن يكون. أما ما هو شرعي (légal) فيعني ما هو عادل بالنظر إلى النصوص المتواضع عليها، ومن ثمة فهو يشير إلى ما هو واقعي وفعلي.
وحينما نتحدث عن مشروعية الدولة، فإننا نشير إلى مجموع التبريرات والدعائم التي ترتكز عليها الدولة من أجل ممارسة سلطتها على مواطنيها.
  أما مفهوم الغاية فيدل على "ما لأجله إقدام الفاعل على فعله، وهي ثابتة لكل فاعل فعل بالقصد والاختيار، فلا توجد الغاية في الأفعال غير الاختيارية".
هكذا فكل دولة تستند إلى مشروعية ما، وانطلاقا من هذه المشروعية يتم اختيار غايات من وجودها؛ إذ يصعب الفصل هنا بين المشروعية والغايات فيما يخص مسألة الدولة.
فما الغاية من وجود الدولة إذن؟ ومن يختار لها هذه الغاية؟ ووفق أية اسس ومنطلقات؟ ومن أين تستمد مشروعيتها؟
               1- موقف اسبينوزا: الحرية هي الغاية الأساسية من قيام الدولة.
 لقد قطع فلاسفة التعاقد الاجتماعي مع التصور الديني للدولة، ولذلك فمشروعية الدولة عندهم تستمد من الالتزام بمبادئ التعاقد المبرم بين الأفراد ككائنات عاقلة وحرة. هذا التعاقد الحر بين الأفراد سيؤسس الدولة على قوانين العقل، التي من شأنها أن تتجاوز مساوئ حالة الطبيعة القائمة على قوانين الشهوة، والتي أدت إلى الصراع والفوضى والكراهية والخداع. ولذلك فغاية الدولة هي تحقيق المصلحة العامة المتمثلة حسب اسبينوزا في تحرير الأفراد من الخوف وضمان حقوقهم الطبيعية المشروعة، والمتمثلة أساسا في الحق في  الحياة و الأمن والحرية. هكذا يرى اسبينوزا أن الغاية من تأسيس الدولة هي تحرير الأفراد من الخوف، وإتاحة الفرصة لعقولهم لكي تفكر بحرية وتؤدي وظائفها بالشكل المطلوب دون استخدام لدوافع الشهوة من حقد وغضب وخداع. ويختصر اسبينوزا الغاية من وجود الدولة بقوله: "الحرية هي الغاية الحقيقية من قيام الدولة".
           2- موقف هيجل: الدولة غاية ذاتها، وهي تجسيد للعقل الموضوعي.
لقد انتقد هيجل التصور التعاقدي الذي يعتبر أن للدولة غاية خارجية مثل السلم أو الحرية أو الملكية، ورأى أن غاية الدولة لا تكمن في أية غاية خارجية، وإنما تتمثل في غاية باطنية؛ فالدولة غاية في ذاتها من حيث إنها تمثل روح وإرادة ووعي أمة من الأمم، وتعتبر تجسيدا للعقل الأخلاقي الموضوعي. إن الدولة هي التحقق الفعلي للروح الأخلاقي باعتباره إرادة جوهرية وكونية. ومن واجب الأفراد أن يكونوا أعضاء في الدولة وأن يتعلقوا بها لأن في ذلك سموهم وعلو مرتبتهم؛ فلا يكون للفرد وجود حقيقي وأخلاقي إلا بانتسابه إلى الدولة.
هكذا يعطي هيجل الأولوية في تحليله إلى الكل على الأجزاء، وإلى الدولة على الأفراد، ويجعل مصيرهم في أن يحيوا حياة عامة وكونية. فمشروعية الدولة إذن لا تستمد عند هيجل من التحالفات القائمة بين الأفراد، بل تستمد من مبادئ عقلية وموضوعية تتأسس عليها الدولة بشكل حتمي يتجاوز الإرادات الفردية ذاتها.
          3- موقف ماكس فيبر: هناك ثلاث مشروعيات تستند عليهم الدولة.
وقد بين فيما بعد ماكس فيبر بأن هناك أنواع متعددة من المشروعية عبر التاريخ؛ مشروعية الحكم اعتمادا على التراث وحماية الماضي واستلهام الأجداد، والمشروعية المرتبطة بشخص ملهم يمثل سلطة دينية وأخلاقية أو إيديولوجية ويحكم باسمها. والمشروعية المؤسسية المستمدة من التمثيلية الانتخابية ومرجعية القانون والمؤسسات وتوزيع السلط. ويشير ماكس فيبر إلى أنه نادرا ما نجد هذه النماذج من المشروعية مجسدة بشكل خالص على أرض الواقع، بل غالبا ما نجد تداخلات فيما بينها على مستوى ممارسة الدولة لسلطتها على الأفراد.
فكيف تمارس الدولة سلطتها السياسية؟
         المحور الثاني:     طبيعة السلطة السياسية
      حينما يتم التساؤل عن طبيعة السلطة السياسية‘ فإن الأمر يتطلب بالضرورة الحديث عن علاقة الدولة بالمواطنين، أو علاقة الحاكم بالمحكومين. فإذن ما هي طبيعة العلاقة التي ينبغي أن تكون بين رجل السياسة من جهة، ومن يمارس عليهم سلطته السياسية من جهة أخرى؟ وبتعبير آخر؛ ما هي الخصائص التي يجب أن تميز الممارسة السياسية للأمير أو السلطان مع شعبه أو رعيته؟
 هنا يمكن تقديم موقفين متعارضين؛ موقف ماكيافيلي وموقف ابن خلدون.
            1- موقف ماكيافيلي: السياسة صراع وقوة وخداع. 
بين ماكيافيلي أن هناك أمراء في عصره أصبحوا عظماء دون أن يلتزموا بالمبادئ الأخلاقية السامية، كالمحافظة على العهود مثلا، بل قد استخدموا كل وسائل القوة والخداع للسيطرة على الناس والتغلب على خصومهم.
هكذا دعا ماكيافيلي إلى ضرورة استخدام الأمير لطريقتين من أجل تثبيت سلطته السياسية؛ الأولى تعتمد القوانين، بحيث يستعملها بحكمة ومكر ودهاء، وبشكل يمكن من تحقيق مصلحة الدولة، أما الثانية فتعتمد على القوة والبطش، ولكن في الوقت المناسب. من هنا يجب على الأمير أن يكون أسدا قويا لكي يرهب الذئاب، وأن يكون ثعلبا ماكرا لكي لا يقع في الفخاخ.
إن الغاية عند ماكيافيلي تبرر الوسيلة. وما دام أن الناس ليسوا أخيارا في الواقع، فلا يلزم أن ينضبط الأمير للمبادىء الأخلاقية في تعامله معهم، بل لا بد أن تكون له القدرة الكافية على التمويه والخداع، وسيجد من الناس من ينخدع بسهولة.
هكذا يتبين أن السياسة، مع ماكيافيلي، تنبني على القوة والمكر والخداع. وهذا ما سيرفضه مجموعة من المفكرين، ومن بينهم ابن خلدون.
          2- موقف ابن خلدون: السياسة رفق واعتدال.
 إن علاقة السلطان بالرعية حسب ابن خلدون هي علاقة ملك بمملوكين. ولذلك يجب أن يتأسس هذا الملك على الجودة والصلاح. من هنا يجب أن يحقق السلطان لرعيته كل ما هو صالح لهم، وأن يتجنب كل ما من شأنه أن يلحق بهم السوء والضرر.
ولذلك وجب أن تكون العلاقة بين السلطان والرعية مبنية على الرفق والاعتدال في التعامل. فقهر السلطان للناس وبطشه بهم يؤدي إلى إفساد أخلاقهم، بحيث يعاملونه بالكذب والمكر والخذلان، أما إذا كان رفيقا بهم ، فإنهم يطمئنون إليه ويكنون له كل المحبة والاحترام، ويكونون عونا له أوقات الحروب والمحن.
انطلاقا من هذا حدد ابن خلدون خصلتين رئيسيتين يجب أن يتصف بهما رجل السياسة، وهما الرفق والاعتدال. ولذلك عليه مثلا أن يتصف بالكرم والشجاعة كصفتين يتوفر فيهما الاعتدال المطلوب بين التبذير والبخل من جهة، وبين التهور والجبن من جهة أخرى.         
← هكذا إذا كان ماكيافيلي يحدد طبيعة السلطة السياسية في القوة والمكر والصراع، واستخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة لتحقيق مصلحة الدولة، فإن ابن خلدون يحدد طبيعتها في التشبث بمكارم الأخلاق المتمثلة أساسا في الرفق والاعتدال.
وهذا ما سيقود إلى إثارة إشكالية الدولة بين الحق والعنف.
          المحورالثالث:  الدولة بين الحق والعنف.
حينما نتحدث عن الدولة بين الحق والعنف، فإننا نثير بالضرورة إشكالية العلاقة بين الدولة كأجهزة ومؤسسات منظمة للمجتمع، وبين الأفراد الخاضعين لقوانينها. فإذا انبنت هذه العلاقة على احترام المبادئ الأخلاقية المتعارف عليها والقوانين المتعاقد عليها، فإن ممارسة الدولة تكون في هذه الحالة ممارسة مشروعة تجعلنا نتحدث عن دولة الحق، أما إذا كانت هذه العلاقة مبنية على أسس غير أخلاقية وغير قانونية، فإنها ستكون مؤسسة على القوة والعنف وهاضمة للحقوق والحريات الفردية والجماعية.
   فما المقصود بمفهومي الحق والعنف؟
يحدد المعجم الفلسفي لأندري لالاند الحق باعتباره "ما لا يحيد عن قاعدة أخلاقية، وما هو مشروع وقانوني في مقابل ما هو واقعي وفعلي". كما يحدده كانط باعتباره يحيل إلى  "مجموع الشروط التي تسمح لحرية كل فرد بأن تنسجم مع حرية الآخرين".
أما العنف فيمكن القول بأنه "اللجوء إلى القوة من أجل إخضاع أحد من الناس ضد إرادته، وهو ممارسة القوة ضد القانون أو الحق". (المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة،د.عبد المنعم الحفني، مكتبة مدبولي، الطبعة الثالثة،2000)
 هكذا يتبين أن الحق هو نقيض العنف؛ إذ أن الأول يمارس بإرادة الأفراد ويضمن لهم حرياتهم المشروعة، في حين أن الثاني يمارس ضد إرادتهم ويغتصبهم حرياتهم.
فإذا كان الأمر كذلك، فهل يمكن البحث عن مشروعية لممارسة الدولة العنف ضد الأفراد أوالجماعات؟ وهل العنف ضروري للدولة لكي تمارس سلطتها؟ ألا يتعارض العنف في هذه الحالة مع الحق والقانون؟
 لمعالجة هذا الإشكال يمكن تقديم موقفين يبدوان متعارضين؛ أحدهما لماكس فيبر والثاني لجاكلين روس.
          1- موقف ماكس فيبر: الدولة وحدها لها الحق في ممارسة العنف المادي.
إن الدولة تتأسس في نظر ماكس فيبر على العنف. ولذلك يرى أنه إذا وجدت تجمعات بشرية لا تعرف العنف، فمعنى ذلك أنه لا يمكن الحديث عن وجود الدولة، كجهاز يحكم هذه التجمعات السياسية. فما سيبقى في حالة اختفاء العنف هو الفوضى بين مختلف مكونات البناء الاجتماعي، نظرا لاختفاء القوة العنيفة القادرة على إزالة هذه الفوضى.
إن العنف إذن هو الوسيلة المميزة للدولة، والعلاقة بينهما هي علاقة وطيدة وحميمية. وللدولة وحدها الحق في ممارسة العنف المادي، إذ لا يحق لأي فرد أو جماعة ممارسة هذا العنف إلا بتفويض من الدولة.
  لكن ألا تتعارض ممارسة العنف مع المواصفات التي يجب أن تتوفر في دولة الحق؟
      2- موقف جاكلين روس: تتمسك دولة الحق بكرامة الفرد ضد كل أنواع العنف والتخويف. 
اعتبرت جاكلين روس أن دولة الحق هي ممارسة معقلنة لسلطة الدولة، يخضع فيها الحق والقانون إلى مبدإ احترام الشخص البشري وضمان كرامته الإنسانية. هكذا فالفرد في دولة الحق هو قيمة عليا ومعيار أسمى لصياغة القوانين والتشريعات التي تمنع كل أنواع الاستعباد والاضطهاد التي قد يتعرض لها.
وما يمكن ملاحظته هنا هو أن الغاية هنا هي الفرد وليس الدولة؛ فهذه الأخيرة هي مجرد وسيلة لخدمة الفرد، إذ تعتبره الغاية الأساسية من كل تشريع. ولن يتم ذلك إلا من خلال مبدأ فصل السلط الذي يمكن من إحقاق الحق وإخضاعه للممارسة المعقلنة القائمة على الاحترام وتطبيق القانون، ونبذ كل أشكال الإرهاب والعنف.
   
الحق والعدالة

يدل لفظ العدالة في تداوله العام على احترام حقوق الغير والدفاع عنها، كما يدل على الخضوع والامتثال للقوانين.
وتدل العدالة في معجم لالاند على صفة لما هو عادل، ويستعمل هذا اللفظ في سياق خاص عند الحديث عن الإنصاف Equité) ) أو الشرعية légalité) ). كما يدل لفظ العدالة تارة على الفضيلة الأخلاقية، وتارة على فعل أو قرار مطابق للتشريعات القضائية. كما يدل اللفظ فلسفيا على ملكة في النفس تمنع الإنسان عن الرذائل، ويقال بأنها التوسط بين الإفراط والتفريط.
هكذا يمكن الحديث عن مستويين في العدالة:
  - مستوى يرتبط بالمؤسسات القانونية والقضائية التي تنظم العلاقات بين الناس في الواقع.
   - ومستوى يرتبط بالعدالة كدلالة أخلاقية، وكمثال أخلاقي كوني يتطلع الجميع لاستلهامه.
أما فيما يخص مفهوم الحق، فيمكن القول بأن له دلالتين رئيسيتين:
  - دلالة في المجال النظري والمنطقي؛ حيث يعني اليقين والصدق والاستدلال السليم.
  - ودلالة في المجال العملي؛ باعتباره قيمة تؤسس للحياة الاجتماعية والممارسة العملية
     للإنسان.
وهذه الدلالة الثانية هي التي تجعله يتقاطع مع مفهوم العدالة.
ويتخذ مفهوما الحق والعدالة أبعادا متعددة؛ طبيعية وأخلاقية وقانونية وسياسية، كما يرتبطا بمجموعة من المفاهيم الأخرى؛ كالطبيعة والثقافة والإنصاف والمساواة. وهو الأمر الذي سيؤدي إلى إثارة مجموعة من الإشكالات سنعالجها من خلال محاور الدرس.
المحور الأول:  الحق بين الطبيعي والوضعي.
     *إشكال المحور: هل يتأسس الحق على ما هو طبيعي أم على ما هو وضعي؟
                  1- فلاسفة الحق الطبيعي: حالة الطبيعة كمرجعية لتأسيس الحق.      
حينما نتحدث عن الحق الطبيعي، فإننا نتحدث عن مجموع الحقوق التي يجب أن يتمتع بها الإنسان بحكم طبيعته كإنسان. وقد كان رجوع فلاسفة الحق الطبيعي، كهوبز واسبينوزا وروسو، إلى حالة الطبيعة بهدف معرفة الطبيعة الإنسانية وتأسيس المجتمع انطلاقا منها، حتى تكون الحقوق والتشريعات عادلة ومناسبة لأصل الطبيعة الإنسانية، وغير متعارضة معها.
وصحيح أن هؤلاء الفلاسفة اختلفوا في تصورهم لحالة الطبيعة ولأصل الإنسان، إلا أنهم يشتركون في مبدإ أساسي هو جعل الطبيعة المفترضة للإنسان أساسا لكل حقوقه في الحالة المدنية أو الاجتماع. من هنا فللإنسان حسب هذا التصور الطبيعي للحق، حقوق لا يمكن المساس بها، وهي حقوق مطلقة وكونية.
 وإذا أخذنا نموذج هوبز مثلا، فإننا نجده يعرف حق الطبيعة بأنه الحرية التي تخول لكل إنسان في أن يسلك وفقا لما تمليه عليه طبيعته الخاصة وما يراه نافعا له. أما حالة الطبيعة فهي عنده حالة حرب الكل ضد الكل، إنها حالة صراع وعنف وفوضى. كما تصور هوبز بأن الطبيعة الإنسانية شريرة، وأن الإنسان ذئب للإنسان. وانطلاقا من هذا التصور ارتأى هوبز ضرورة تأسيس الحق في حالة الاجتماع على القوة، قوة الأمير الذي سيفرض نفسه على الجميع ويتنازل له الأفراد عن حرياتهم الطبيعية. هكذا يتأسس الحق عند هوبز على القوة وعلى ما هو طبيعي؛ لأن أساس الحق عنده نابع من تصوره لطبيعة الإنسان.
أما إذا أخذنا نموذج روسو، فإننا نجده يختلف مع هوبز في تصوره لحالة الطبيعة ولطبيعة الإنسان؛ إذ يرى أنها حالة أمن وسلام، وأن الإنسان خير بطبعه. لكنه مع ذلك يلتقي معه في رجوعه إلى حالة الطبيعة من أجل البحث عن مرجعية ومرتكز لتأسيس الحق. هكذا فمبادئ التعاقد الاجتماعي عند روسو تجد ينابيعها الأولى في الحقوق الطبيعية للإنسان. من هنا فالحق يجد أساسه عند روسو فيما هو طبيعي، أي في مجموع المواصفات التي كانت تميز حياة الإنسان في الحالة الطبيعية الأولى.
وبخلاف هذا التصور الذي يؤسس الحق على تصور معين للطبيعة الإنسانية، يأتي التصور الوضعي الذي يؤسسه على مرتكزات ثقافية ووضعية.
                2- الموقف الوضعي: تأسيس الحق على الأوضاع السائدة داخل كل مجتمع. 
ترفض النزعة الوضعية القانونية تأسيس الحق على أية اعتبارات ميتافيزيقية وطبيعية، وتؤسسه‘ بخلاف ذلك‘ على اعتبارات واقعية وثقافية. هكذا يرى هانز كيلسن، أحد ممثلي هذه النزعة، أنه لا وجود لحق غير الحق الوضعي الفعلي الذي يتحدد انطلاقا من اعتبارات واقعية، ومن موازين القوى المتصارعة على أرض الواقع. وهذا ما يضفي على الحق طابع النسبية والتغير، ويجعل من غي الممكن الحديث عنه خارج إطار القوانين المتجسدة في المؤسسات القضائية والتنفيذية التي تفرضه في الواقع.
وفضلا عن هذا، يرى كيلسن أن هناك اختلاف في المرجعيات السيكولوجية والاجتماعية والثقافية بين الناس، مما ينعكس على تصورهم لأساس الحق، ويجعل هذا الأخير يختلف باختلاف المبادئ التي يرتكز عليها.  
   وإذا كان الحق لا يتجسد إلا من خلال القوانين التي من المفترض أنها وضعت بهدف تحقيق العدالة والإنصاف والمساواة بين الأفراد، فإن هذا يثير إشكال العلاقة بين الحق والعدالة.
  المحور الثاني:  العدالة كأساس للحق.
        *إشكال المحور: كيف تتحدد علاقة الحق بالعدالة؟ وهل يمكن اعتبار العدالة أساسا للحق؟ وهل هناك وجود للحق خارج إطار القوانين التشريعية والقضائية الممثلة للعدالة؟
                    1- موقف اسبينوزا: قوانين العدالة كتجسيد للحق.
اعتبر اسبينوزا أن هناك مبدأ تقوم عليه الدولة الديمقراطية، وهو تحقيق الأمن والسلام للأفراد عن طريق وضع قوانين عقلية تمكن من تجاوز قوانين الشهوة التي هي المصدر الأساسي لكل كراهية وفوضى. من هنا يتحدث اسبينوزا عن القانون المدني الذي تحدده السلطة العليا، والذي يجب على الأفراد احترامه للمحافظة على حرياتهم ومصالحهم المشتركة. وهذا القانون هو الذي تتجسد من خلاله العدالة التي تتمثل في إعطاء كل ذي حق حقه. ولهذا يدعو اسبينوزا القضاة المكلفين بتطبيق القانون إلى معاملة الناس بالمساواة والإنصاف، من أجل ضمان حقوق الجميع، وعدم التمييز بينهم على أي أساس طبقي أو عرقي أو غيره.
هكذا يبدو أنه لا يمكن تصور عدالة خارج إطار مبادئ العقل المجسدة في القانون المدني الذي تتكفل الدولة بتطبيقه، كما لا يمكن تصور تمتع للناس بحقوقهم خارج قوانين العدالة. فالعدالة والحالة هاته، هي تجسيد للحق وتحقيق له؛ إذ لا يوجد حق خارج عدالة قوانين الدولة. أما خارج هذه القوانين التي يضعها العقل، فإننا نكون بإزاء العودة إلى عدالة الطبيعة التي استحال فيها تمتع الجميع بحقوقهم المشروعة في الحرية والأمن والاستقرار.
   لكن ألا يمكن أن نعتبر أن الحق يسمو على قوانين العدالة وتشريعاتها القضائية، وأن هذه الأخيرة قد تكون جائرة وهاضمة للحقوق المشروعة للأفراد؟
معنى ذلك أنه يجب البحث عن أساس آخر للحق غير العدالة وقوانينها؟
                 2- موقف شيشرون: لا يتجسد الحق دائما من خلال قوانين الشعوب. 
يرى شيشرون أن المؤسسات والقوانين لا يمكن أن تكون أساسا للحق، مادام أن هناك قوانينا يضعها الطغاة لخدمة مصالحهم الخاصة وتهضم حقوق بقية الناس. ولذلك يجب تأسيس الحق والعدالة تأسيسا عقليا؛ إذ أن الحق الوحيد هو الذي يؤسسه قانون واحد مبني على قواعد العقل السليم الذي يشرع ما يجب فعله وما يجب اجتنابه. ومن جهة أخرى يذهب شيشرون إلى القول بأنه "لن توجد عدالة ما لم توجد طبيعة صانعة للعدالة"، وهذه هي الطبيعة الخيرة التي تتمثل في ميلنا إلى حب الناس الذي هو أساس الحق. و " طالما لم يقم الحق على الطبيعة فإن جميع الفضائل ستتلاشى". هكذا يبدو أن شيشرون يؤسس الحق تأسيسا عقليا وأخلاقيا، ويعترض على تأسيسه انطلاقا من المنافع الخاصة وما هو حاصل على أرض الواقع. 
 لكن المشكل الذي تطرحه نظرية شيشرون هو طابعها المثالي؛ إذ أن الناس في الواقع لا تصدر عنهم دائما سلوكات خيرة إما بسبب نزوعاتهم العدوانية كما يرى البعض، أو بسبب الصراع حول المصالح كما يرى البعض الآخر.
وإذا كان الناس متفاوتين في الواقع بسبب الاختلافات الموجودة بينهم في المؤهلات والمزايا والمراتب الاجتماعية وغير ذلك، فهل يجب أن نطبق عليهم القوانين بالتساوي أم يجب مراعاة روح هذه القوانين لإنصاف كل واحد منهم؟
  المحور الثالث: العدالة بين المساواة والإنصاف.
         *إشكال المحور:  هل ينبغي تطبيق العدالة بين الناس بالتساوي، بحيث يكون الجميع أمامها سواسية، أم يجب إنصاف كل واحد منهم بحسب تميزه عن الآخرين؟ وبتعبير آخر؛ إذا كانت العدالة تهدف إلى خلق المساواة في المجتمع، فهل بإمكانها إنصاف جميع أفراده؟
                 1- موقف ألان (إميل شارتيي): العدالة هي معاملة الناس بالمساواة.
  لا يمكن الحديث‘ حسب ألان، عن الحق إلا في إطار المساواة بين الناس. فالقوانين العادلة هي التي يكون الجميع أمامها سواسية. والحق لا يتجسد إلا داخل المساواة باعتبارها ذلك الفعل العادل الذي يعامل الناس بالتساوي بغض النظر عن التفاوتات القائمة بينهم. وهنا يتحدث ألان عن السعر العادل ويميزه عن سعر الفرصة؛ بحيث أن الأول هو المعلن داخل السوق والذي يخضع له الجميع بالتساوي، بينما الثاني هو سعر يغيب فيه التكافؤ بين الطرفين؛ كأن يكون أحدهما مخمورا والآخر واعيا، أو يكون أحدهما عالما بقيمة المنتوج والآخر جاهلا بذلك.
هكذا فالمساواة لن تتحقق حسب ألان إلا إذا عرض الباعة لكل الناس نفس السلع وبثمن موحد. ومعنى ذلك أن العدالة لن تتحقق إلا كانت القوانين الجاري بها العمل تعامل الناس بالمساواة التي هي أساس إحقاق الحق.
 وفي هذا الإطار يقول ألان: " لقد ابتكر الحق ضد اللامساواة. والقوانين العادلة هي التي يكون الجميع أمامها سواسية... أما أولائك الذين يقولون إن اللامساواة هي من طبيعة الأشياء، فهم يقولون قولا بئيسا".
ومثل هذا القول "البئيس" هو الذي نعتقد أنه يقول به ماكس شيلر.
                2- موقف ماكس شيلر: المطالبة بالمساواة المطلقة هي عدالة جائرة.
   يذهب ماكس شيلر إلى القول بأن العدالة لا تتمثل في المطالبة بالمساواة المطلقة بين الناس؛ لأنها مساواة جائرة ما دامت لا تراعي الفروق بين الأفراد فيما يخص الطبائع والمؤهلات التي يتوفرون عليها. فالعدالة المنصفة هي التي تراعي اختلاف الناس وتمايز طبائعهم ومؤهلاتهم. ومن الظلم أن نطالب بالمساواة المطلقة بين جميع الناس؛ ذلك أن وراء هذه المطالبة بالمساواة كراهية وحقد على القيم السامية، ورغبة دفينة في خفض مستوى الأشخاص المتميزين إلى مستوى الأشخاص الذين هم في أسفل السلم.
هكذا ينتقد ماكس شيلر ما يسميه بالأخلاقية الحديثة التي تقول بأن جميع الناس متساوون أخلاقيا، وبالتالي تنفي التفاوتات الموجودة بينهم على مستوى ما يتوفرون عليه من مؤهلات. ويرى أن هذه المساواة المطلقة هي فكرة عقلانية نابعة من حقد وكراهية الضعفاء ومن هم في أسفل درجات السلم تجاه الأقوياء الذين يمتلكون مؤهلات وقدرات أكثر من غيرهم تجعلهم يتواجدون في أعلى السلم الاجتماعي. وبدلا من هذه الأخلاق العقلانية التي تنادي بالمساواة الصورية والنظرية، يقترح شيلر ما أسماه بالأخلاق الموضوعية التي تأخذ بعين الاعتبار الفوارق بين الناس على أرض الواقع. وهنا تكمن العدالة المنصفة التي تحافظ على القيم السامية التي يتمتع بها الأشخاص المتفوقون.





هيكلة مقترحة لمجزوءة السياسة


 ذ. محمد الشبة

     تقديم:
        
 تقال السياسة على تدبير المعاش، بإصلاح أحوال جماعة مخصوصة على سنن العدل والاستقامة ( المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، مكتبة مدبولي، د.عبد المنعم الحفني ). فالسياسة هي تجسيد لممارسة عليا تتم بين أفراد النوع البشري، ففيها يتم الانتقال من الاجتماع المؤقت والتلقائي إلى الاجتماع الدائم المتمثل في إقامة الدولة على مبادىء التعاقد الاجتماعي الذي يتنازل الأفراد بموجبه عن جزء من حرياتهم الفردية ليمتثلوا لسلطة الدولة من حيث أنها تمثل المجتمع عبر الأساليب الديمقراطية والانتخاب الحر.
فالسياسة إذن هي ممارسة للسلطة داخل المدينة أو الدولة، وبواسطتها يتم تثبيت القانون من خلال قوة عمومية تتجسد في مجموعة من الأجهزة والمؤسسات. هكذا يحيل مفهوم السياسة على مجموعة من المفاهيم المرتبطة به، مثل: الدولة، السلطة السياسية، الحق، القانون، العدالة...
وقد اعتبر أرسطو أن الإنسان حيوان سياسي بطبعه، وأن "الأمر الذي يميز الإنسان بشكل خاص هو كونه يدرك الخير والشر، والأمر العادل والجائر، وكل العواطف الشبيهة بذلك، والتي يكون التواصل بها مؤسسا للأسرة وللدولة" ( أرسطو، السياسة، عن الكتاب المدرسي، مباهج الفلسفة، السنة الأولى باكلوريا، ص64 ). فالممارسة السياسية إذن تشكل أهم الممارسات البشرية، وهي التي تجعل الوجود الاجتماعي منظما وقائما على مبادىء عقلية قانونية وأخلاقية.                    ولهذا لا يتحدد مجال النظر السياسي بمفهوم الدولة فقط ، وإنما بمفاهيم أخرى مرتبطة بها كالحق والعدالة والعنف.
فالدولة ترتكز على قوانين تتوخى إحقاق الحق والإنصاف والعدالة والمساواة وتهذيب السلوك البشري. غير أن الناس مع ذلك، وتبعا لمصالح محددة، يلتجئون إلى ممارسة العنف على بعضهم البعض، مما قد يضطر الدولة إلى التدخل بقوانينها وأجهزتها القضائية إلى إحقاق الحق وتثبيت العدالة.
 - فما الدولة؟ ومن أين تستمد مشروعيتها؟ وما الغاية منها؟ وكيف تمارس سلطتها السياسية؟
 - ما العنف؟ ما هي أشكاله ومظاهره؟ وما هو دور العنف في التاريخ؟ وهل يمكن الإقرار بمشروعية العنف؟
 - ما الحق؟ ما العدالة؟ وكيف تتحدد العلاقة بينهما؟  
 
  الدولة

تعتبر الدولة تنظيما سياسيا يكفل حماية القانون وتأمين النظام لجماعة من الناس تعيش على أرض معينة بصفة دائمة، وتجمع بين أفرادها روابط تاريخية وجغرافية وثقافية مشتركة. ولذلك لا يمكن الحديث عن الدولة في مجال ترابي معين إلا إذا كانت السلطة فيها مؤسساتية وقانونية، وأيضا مستمرة ودائمة لا تحتمل الفراغ.
كما يقترن اسم الدولة بمجموع الأجهزة المكلفة بتدبير الشأن العام للمجتمع. هكذا تمارس الدولة سلطتها بالاستناد إلى مجموعة من القوانين والتشريعات السياسية التي تروم تحقيق الأمن والحرية والتعايش السلمي.
  وهذا ما يجعلنا نتساءل عن المشروعية التي تتأسس عليها الدولة من جهة، وعن الغاية من وجودها من جهة أخرى؟
 كما تدفعنا إلى التساؤل عن طبيعة ممارسة الدولة لسلطتها السياسية؟ وعن مدى مشروعية الدولة في استخدام العنف؟
المحور الأول:    مشروعية الدولة وغاياتها
      فيما يخص مفهوم المشروعية، ينبغي التمييز بين ما هو مشروع légitime) ) يستهدف إحلال العدل والحق، ومن ثمة فهو يشير إلى ما ينبغي أن يكون. أما ما هو شرعي (légal) فيعني ما هو عادل بالنظر إلى النصوص المتواضع عليها، ومن ثمة فهو يشير إلى ما هو واقعي وفعلي.
  أما مفهوم الغاية فيدل على "ما لأجله إقدام الفاعل على فعله، وهي ثابتة لكل فاعل فعل بالقصد والاختيار، فلا توجد الغاية في الأفعال غير الاختيارية."(المعجم الشامل...مرجع سابق)
فما الغاية من وجود الدولة إذن؟ ومن يختار لها هذه الغاية؟ ووفق أية اسس ومنطلقات؟ ومن أين تستمد مشروعيتها؟
 لقد قطع فلاسفة التعاقد الاجتماعي مع التصور الديني للدولة، ولذلك فمشروعية الدولة عندهم تستمد من الالتزام بمبادىء التعاقد المبرم بين الأفراد. وغايتها هي تحقيق المصلحة العامة المتمثلة حسب اسبينوزا في صيانة حقوق الأفراد ككائنات عاقلة، أو المتمثلة حسب هوبز في تحقيق الأمن والسلم الاجتماعي.
وقد انتقد هيجل هذا التصور التعاقدي الذي يعتبر أن للدولة غاية خارجية مثل السلم أو الحرية أو الملكية، ورأى أن غاية الدولة لا تكمن في أية غاية خارجية، وإنما تتمثل في غاية باطنية؛ فالدولة غاية في ذاتها من حيث إنها تمثل روح وإرادة ووعي أمة من الأمم، وتعتبر تجسيدا للعقل المطلق.
وقد بين فيما بعد ماكس فيبر بأن هناك أنواع متعددة من المشروعية عبر التاريخ؛ مشروعية الحكم اعتمادا على التراث وحماية الماضي واستلهام الأجداد، والمشروعية المرتبطة بشخص ملهم يمثل سلطة دينية وأخلاقية أو إيديولوجية ويحكم باسمها. والمشروعية المؤسسية المستمدة من التمثيلية الانتخابية ومرجعية القانون والمؤسسات وتوزيع السلط.
فكيف تمارس الدولة سلطتها السياسية؟
المحور الثاني:     طبيعة السلطة السياسية
        إن مفهوم الطبيعة يدل على علة باطنية محركة للشيء، كما يشير إلى خاصية جوهرية تميز الشيء عن غيره. ولهذا فالتساؤل عن طبيعة السلطة السياسية يفترض التساؤل عن خصائصها وآلياتها وما يميز ممارستها داخل المجتمع.                                               هل  هي محصورة في أجهزة الدولة في إطار تصور سياسي مركزي وتراتبي أم أنها جملة قوى ميكروفيزيائية مشتتة وموزعة في ثنايا المجتمع؟
 هنا يمكن تقديم أطروحة ألتوسير الذي يرى أن السلطة تمارس من خلال أجهزة الدولة سواء تعلق الأمر بأجهزتها القمعية، كالإدارة والجيش والشرطة والسجون...، أو بأجهزتها الإيديولوجية كالمدرسة والإعلام والنقابة والأحزاب...الخ.
 وفي مقابل هذا التصور الذي يحصر السلطة في مجموعة من الأجهزة، في إطار تصور سياسي مركزي، يمكن الحديث عن تصور ميشيل فوكو الذي يعتبر أن السلطة تسري في الجسم الاجتماعي برمته، وأنها الاسم الذي يمكن إطلاقه على وضعية استراتيجية معقدة في مجتمع معين.
وإذا كان ألتوسير يتحدث عن استعمال الدولة لأجهزتها القمعية في تثبيت سلطتها والإلزام باحترام القوانين، فإلا أي حد يكون للدولة الحق والمشروعية في استخدام العنف؟
المحورالثالث:  الدولة بين الحق والعنف
حينما نتحدث عن الدولة بين الحق والعنف، فإننا نثير بالضرورة إشكالية العلاقة بين الدولة كأجهزة ومؤسسات منظمة للمجتمع، وبين الأفراد الخاضعين لقوانينها. فإذا انبنت هذه العلاقة على احترام المبادئ الأخلاقية المتعارف عليها والقوانين المتعاقد عليها، فإن ممارسة الدولة تكون في هذه الحالة ممارسة مشروعة تجعلنا نتحدث عن دولة الحق، أما إذا كانت هذه العلاقة مبنية على أسس غير أخلاقية وغير قانونية، فإنها ستكون مؤسسة على القوة والعنف وهاضمة للحقوق والحريات الفردية والجماعية.
   فما المقصود بمفهومي الحق والعنف؟
يحدد المعجم الفلسفي لأندري لالاند الحق باعتباره "ما لا يحيد عن قاعدة أخلاقية، وما هو مشروع وقانوني في مقابل ما هو واقعي وفعلي". كما يحدده كانط باعتباره يحيل إلى  "مجموع الشروط التي تسمح لحرية كل فرد بأن تنسجم مع حرية الآخرين".
أما العنف فيمكن القول بأنه "اللجوء إلى القوة من أجل إخضاع أحد من الناس ضد إرادته، وهو ممارسة القوة ضد القانون أو الحق". (المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة،د.عبد المنعم الحفني، مكتبة مدبولي، الطبعة الثالثة،2000)
 هكذا يتبين أن الحق هو نقيض العنف؛ إذ أن الأول يمارس بإرادة الأفراد ويضمن لهم حرياتهم المشروعة، في حين أن الثاني يمارس ضد إرادتهم ويغتصبهم حرياتهم.
فإذا كان الأمر كذلك، فهل يمكن البحث عن مشروعية لممارسة الدولة العنف ضد الأفراد أوالجماعات؟ وهل العنف ضروري للدولة لكي تمارس سلطتها؟ ألا يتعارض العنف في هذه الحالة مع الحق والقانون؟
 لمعالجة هذا الإشكال يمكن توظيف أطروحة ماكيافيل الذي يرى بأنه لا يمكن للأمير أن يتحلى بكل الفضائل الإنسانية المحمودة، من أجل الحفاظ على سلطانه، بل عليه أن يلجأ إلى استعمال العنف والشر إذا اقتضت الضرورة ذلك، وما دامت الغاية تبرر الوسيلة، أو توظيف أطروحة ماكس فيبر الذي يعطي للدولة الحق في ممارسة العنف المادي، إذ هي وحدها تمتلك هذا الحق وتحتكره، فهو الوسيلة المميزة لها.
ويمكن معارضة هاتين الأطروحتين بأطروحة جاكلين روس التي تعتبر أن دولة الحق هي ممارسة معقلنة لسلطة الدولة، يخضع فيها الحق والقانون إلى مبدإ احترام الشخص البشري وضمان كرامته الإنسانية وذلك ضد كل أنواع العنف والقوة والتخويف التي قد يتعرض لها. إن الفرد في دولة الحق هو قيمة عليا ومعيار أسمى لصياغة القوانين والتشريعات التي تمنع كل أنواع الاستعباد والاضطهاد التي قد يتعرض لها.
  العنف
  وهذا الإشكال المتعلق بمشروعية العنف هو الذي نجده في المحور الثالث من درس العنف. ولذلك يمكن معالجته انطلاقا من موقف ماكس فيبر الذي يتحدث عن مشروعية العنف المادي الممارس من طرف الدولة، وعن حقها في احتكار هذا النوع من العنف، مستشهدا بتروتسكي الذي يرى "أن كل دولة هي جهاز مؤسس على العنف".
ويمكن معارضة ذلك بموقف غاندي الذي يرى أن العنف هو دوما عنف، وأنه رذيلة، وأن العنف هو القانون الذي يحكم النوع الحيواني بينما اللاعنف هو الذي يحكم النوع الإنساني. كما يمكن استثمار موقف إريك فايل الذي يرى أن الفلسفة هي رفض للعنف بصفة مطلقة، وان منطلقها وهدفها النهائي هو اللاعنف أي اختيار الخطاب العقلي المتماسك.   
 إن العنف واقعة أساسية في تاريخ المجتمعات البشرية، وهو يعتمد على تقنيات ووسائل مختلفة، كما يتخذ أشكالا متعددة.
 من هنا سيتم التساؤل في المحور الأول عن طبيعة العنف؟ وعن أشكاله ومظاهره المختلفة؟
وهنا يمكن الحديث مع إيف ميشو YVES MICHAUD عن أشكال مختلفة من العنف المادي التي ميزت المجتمعات البشرية في القرن العشرين؛ كالحروب والإبادات والاضطهاد ومعسكرات الاعتقال والإجرام وغير ذلك. وقد ساهمت التكنولوجيا في تطوير وسائل العنف المادي، كما ارتبط العنف بوسائل الإعلام التي أدت إلى انتشاره والإخبار عنه.
 غير أن بيير بورديو يتحدث عن شكل آخر من العنف، هو العنف الرمزي الذي هو شكل لطيف من العنف يمارس على فاعل اجتماعي ما بموافقته وتواطئه. يقول بورديو: "العنف الرمزي هو عبارة عن عنف لطيف وعذب، وغير محسوس، وهو غير مرئي بالنسبة لضحاياهم أنفسهم، وهو عنف يما3س عبر الطرق والوسائل الرمزية الخالصة، أي عبر التواصل وتلقين المعرفة".   ( نص إضاءة لبورديو، مباهج الفلسفة، السنة الثانية باكلوريا، ص144) 
وبالرغم من ازدياد حدة العنف في المجتمعات المعاصرة، فإن العنف ظاهرة تاريخية لا تخلو منها أمة أو قبيلة أو دين؛ " فالجماعة مستعدة دوما للعنف من أجل الدفاع عن حقيقتها المقدسة. الإنسان بحاجة إلى عنف...لكي يعيش ولكي يجد له معنى على الأرض". (محمد أركون المرجع السابق، ص144)
  من هنا يمكن التساؤل في المحور الثاني عن دور العنف في التاريخ؛ فما هو دور العنف في التاريخ؟ وكيف يتولد العنف في تاريخ المجتمعات البشرية؟
  ويمكن أن نستثمر هنا موقف ماركس الذي يبين ظاهرة العنف من خلال الصراع الطبقي الذي هو المحرك الأول للتاريخ؛ " فالمضطهدون والمضطهدون أقاموا بينهم حروبا لا تتوقف، معلنة أحيانا وخفية تارة أخرى". ( ماركس، المرجع السابق، ص145) ففي عصر سيادة البورجوازية (الطبقة المالكة لوسائل الإنتاج) أصبح المجتمع منقسما إلى معسكرين متعاديين، أي إلى طبقتين متعارضتين تعارضا كليا هما البورجوازية والبروليتاريا. والصراع الطبقي قد يتخذ طابعا فرديا لا يعيه الفرد ذاته، كما قد يتخذ طابع صراع نقابي أو سياسي أو إيديولوجي واضح.
ويمكن تقديم تحليل آخر لظاهرة العنف في التاريخ، هو ذلك الذي يقوم به فرويد حيث يربط العنف بطبيعة الجهاز النفسي للإنسان، الذي يعتبر كائنا عدوانيا وشرسا بطبعه. ولذلك لا يمكن سوى قمع العنف وكبح جماحه دون التمكن من القضاء عليه، ما دام يعاود الظهور حينما يتم إلغاء الزجر في فترات الحرب. وقد عرف مسار العنف تطورا في تاريخ البشرية؛ حيث تم الانتقال من العنف العضلي إلى العنف الذي يستخدم الأدوات، ثم إلى عنف عقلي سيشكل قوى موحدة ضد عنف الأقوى. وهذا ما سيؤدي إلى ظهور مفهوم الحق كقوة جديدة ضد العنف.
الحق والعدالة   
وإذا انتقلنا إلى  درس الحق والعدالة، سنجد أن هناك تداخلات وتقاطعات بين هذين المفهومين تؤدي إلى بؤرة من الإشكالات.
 فما المقصود أولا بالعدالة؟
يدل لفظ العدالة في تداوله العام على احترام حقوق الغير والدفاع عنها، كما يدل على الخضوع والامتثال للقوانين.
وتدل العدالة في معجم لالاند على صفة لما هو عادل، ويستعمل هذا اللفظ في سياق خاص عند الحديث عن الإنصاف Equité) ) أو الشرعية légalité) ). كما يدل لفظ العدالة تارة على الفضيلة الأخلاقية، وتارة على فعل أو قرار مطابق للتشريعات القضائية. كما يدل اللفظ فلسفيا على ملكة في النفس تمنع الإنسان عن الرذائل، ويقال بأنها التوسط بين الإفراط والتفريط.
هكذا يمكن الحديث عن مستويين في العدالة:
  - مستوى يرتبط بالمؤسسات القانونية والقضائية التي تنظم العلاقات بين الناس في الواقع.
   - ومستوى يرتبط بالعدالة كدلالة أخلاقية، وكمثال أخلاقي كوني يتطلع الجميع لاستلهامه.
أما فيما يخص مفهوم الحق، فيمكن القول بأن له دلالتين رئيسيتين:
  - دلالة في المجال النظري والمنطقي؛ حيث يعني اليقين والصدق والاستدلال السليم.
  - ودلالة في المجال العملي؛ باعتباره قيمة تؤسس للحياة الاجتماعية والممارسة العملية
     للإنسان.
وهذه الدلالة الثانية هي التي تجعله يتقاطع مع مفهوم العدالة.
ويتخذ مفهوما الحق والعدالة أبعادا متعددة؛ طبيعية وأخلاقية وقانونية وسياسية، كما يرتبطا بمجموعة من المفاهيم الأخرى؛ كالطبيعة والثقافة والإنصاف والمساواة. وداخل هذه العلاقات يمكن إثارة مجموعة من الإشكالات من قبيل:
       - الحق بين الطبيعي والثقافي.
       - العلاقة بين الحق والعدالة.
     - العدالة بين الإنصاف والمساواة.
نبدأ بالإشكال الأول:  الحق بين الطبيعي والوضعي.
حينما نتحدث عن الحق الطبيعي، فإننا نتحدث عن مجموع الحقوق التي يجب أن يتمتع بها الإنسان بحكم طبيعته كإنسان. وقد كان رجوع فلاسفة الحق الطبيعي، كهوبز واسبينوزا وروسو، إلى حالة الطبيعة بهدف معرفة الطبيعة الإنسانية وتأسيس المجتمع انطلاقا منها، حتى تكون الحقوق والتشريعات عادلة ومناسبة لأصل الطبيعة الإنسانية، وغير متعارضة معها.
وصحيح أن هؤلاء الفلاسفة اختلفوا في تصورهم لحالة الطبيعة ولأصل الإنسان، إلا أنهم يشتركون في مبدإ أساسي هو جعل الطبيعة المفترضة للإنسان أساسا لكل حقوقه في الحالة المدنية أو الاجتماع. من هنا فللإنسان حسب هذا التصور الطبيعي للحق، حقوق لا يمكن المساس بها، وهي حقوق مطلقة وكونية.
ويمكن معارضة هذا التصور بالتصور الوضعي الذي يرفض تأسيس الحق على أية اعتبارات ميتافيزيقية أو افتراضات عقلية؛ إذ لا وجود لحق غير الحق الوضعي الفعلي الذي يتحدد انطلاقا من اعتبارات واقعية، ومن موازين القوى المتصارعة على أرض الواقع. وهنا يرى هانز كيلسن أن الحق نسبي بنسبية المبادئ التي يرتكز عليها، وأنه لا وجود لحق خارج إطار القانون المتجسد في المؤسسات القضائية والتنفيذية التي تفرضه في الواقع.
 وإذا كان الحق لا يتجسد إلا من خلال القوانين التي وضعت بهدف تحقيق العدالة والإنصاف والمساواة بين الأفراد، فكيف تتحدد علاقة الحق بالعدالة؟ وهل يمكن اعتبار العدالة أساسا للحق؟ وهل هناك وجود للحق خارج إطار القوانين التشريعية والقضائية الممثلة للعدالة؟
العدالة كأساس للحق:
يمكن أن نقدم هنا تصور اسبينوزا الذي يعتبر أن العدالة هي تجسيد للحق وتحقيق له، فلا يوجد حق خارج عدالة قوانين الدولة. فالعدل يتمثل في إعطاء كل ذي حق حقه طبقا للقانون المدني، وأما الظلم فهو سلب شخص ما حقه بمخالفة هذا القانون.
لكن ألا يمكن أن نعتبر أن الحق يسمو على قوانين العدالة وتشريعاتها القضائية، وأن هذه الأخيرة قد تكون جائرة وهاضمة للحقوق المشروعة للأفراد؟
معنى ذلك أنه يجب البحث عن أساس آخر للحق غير العدالة وقوانينها؟
هنا يمكن استدعاء أطروحة شيشرون التي يرى صاحبها أن المؤسسات والقوانين لا يمكن أن تكون أساسا للحق، وانه يجب البحث عن هذا الأساس في الطبيعة الخيرة للإنسان التي تتمثل في الميل إلى حب الناس الذي هو أساس الحق. هكذا يرى ششيرون أنه " طالما لم يقم الحق على الطبيعة فإن جميع الفضائل ستتلاشى". ( منار الفلسفة، س2باكلوريا، ص166)
 لكن المشكل الذي تطرحه نظرية شيشرون هو طابعها المثالي؛ إذ أن الناس في الواقع لا تصدر عنهم دائما سلوكات خيرة إما بسبب نزوعاتهم العدوانية كما يرى البعض، أو بسبب الصراع حول المصالح كما يرى البعض الآخر.
وإذا كان الناس متفاوتين في الواقع بسبب الاختلافات الموجودة بينهم في المؤهلات والمزايا والمراتب الاجتماعية وغير ذلك، فهل ينبغي تطبيق العدالة بينهم بالتساوي، بحيث يكون الناس أمامها سواسية، أم يجب إنصاف كل واحد منهم بحسب تميزه عن الآخرين؟ وبتعبير آخر؛ إذا كانت العدالة تهدف إلى خلق المساواة في المجتمع، فهل بإمكانها إنصاف جميع أفراده؟
العدالة بين المساواة والإنصاف:
لمقاربة هذا الإشكال، يمكن تقديم أطروحتين متباينتين؛ الأولى لألان (Alain) [ إميل شارتيي] الذي يرى أنه لا يمكن الحديث عن الحق إلا في إطار المساواة بين الناس. فالقوانين العادلة هي التي يكون الجميع أمامها سواسية. والحق لا يتجسد إلا داخل المساواة باعتبارها ذلك الفعل العادل الذي يعامل الناس بالتساوي بغض النظر عن التفاوتات القائمة بينهم. وفي هذا الإطار يقول ألان: " يسود الحق فقط حين يتساوى طفل صغير يحمل نقوده ناظرا إلى المعروضات بعيون متلهفة، مع الخادمة الأكثر شطارة ". (في رحاب الفلسفة، س2باكلوريا،مسلك الآداب والعلوم الإنسانية، ص166).

أما الأطروحة الثانية فيقدمها ماكس شيلر، الذي يذهب إلى القول بأن العدالة لا تتمثل في المطالبة بالمساواة؛ لأنها مساواة جائرة ما دامت لا تراعي الفروق بين الأفراد فيما يخص الطبائع والمؤهلات التي يتوفرون عليها. فالعدالة المنصفة هي التي تراعي اختلاف الناس وتمايز طبائعهم ومؤهلاتهم. ومن الظلم أن نطالب بالمساواة المطلقة بين جميع الناس. إن وراء هذه المطالبة بالمساواة كراهية وحقد على القيم السامية، ورغبة دفينة في خفض مستوى الأشخاص المتميزين إلى مستوى الأشخاص الذين هم في أسفل السلم. 





الشخص

 ذ. محمد الشبة

يشير مفهوم الشخص إلى الذات الإنسانية بما هي ذات واعية ومفكرة من جهة، وذات حرة ومسؤولة من جهة أخرى. إذا كان الكثير من الفلاسفة قد ركزوا على جانب الفكر والوعي باعتبارهما يمثلان جوهر الشخص البشري، فإن هناك أبعاد أخرى تميز هذا الكائن؛ بيولوجية وسيكولوجية واجتماعية وغيرها. فللشخص صفات جسدية متغيرة، كما أن له حياة نفسية متقلبة، ثم إنه حيوان سياسي وأخلاقي، محكوم بروابط وعلاقات مع الغير.
أمام كل هذه المحددات نجد أن مفهوم الشخص يثير الكثير من الإشكالات، من أهمها ما يلي:
- ما الذي يتغير في الشخص؟ وما الذي يبقى ثابتا؟ أين تتمثل هوية الشخص؟ هل هي هوية واحدة أم متعددة؟
- ما الذي يميز الشخص ويمنحه قيمة وتميز عن باقي الحيوانات والأشياء؟ وما الذي يؤسس البعد القيمي- الأخلاقي للشخص؟
- بأي معنى يمكن النظر إلى الشخص كذات حرة ومسؤولة؟ ألا يمكن القول بأن حريته مشروطة بأوضاع اجتماعية؟
                           І - الشخص والهوية: 
        *إشكال المحور:  ما الذي يكون الهوية الشخصية؟ وعلى ماذا تتأسس هوية
                               الشخص؟
                  1- موقف جون لوك: تحديد هوية الشخص انطلاقا من الشعور والذاكرة.   
الشخص عند جون لوك كائن واع ومفكر، يتأمل ذاته ويدرك أنها مطابقة لنفسها في كل لحظة تمارس فيها التفكير والتعقل. ويربط لوك بين الفكر والشعور، وهذا الربط هو الذي جعله يستنتج أن الشعور هو ما يكون الهوية الشخصية للإنسان. كما يربط من جهة أخرى بين الذاكرة وهوية الشخص؛ إذ كلما امتد الشعور في الذاكرة إلا واتسعت معه هوية الشخص وتقوت. وهذا يعني أن الشعور والذاكرة هما مكونان أساسيان لهوية الشخص.
                  2- موقف شوبنهاور:  الإرادة كأساس لهوية الشخص .
خلافا للفلسفات التي تحدد هوية الشخص انطلاقا من الوعي والذاكرة، يرى شوبنهاور أن هوية الشخص تتحدد بالإرادة، إرادة الحياة التي تظل ثابتة فينا حتى عندما ننسى ونتغير كلية.
هكذا وبالرغم من التحولات التي يحملها الزمن إلى الإنسان، فإنه يبقى فيه شيء لا يتغير، وهو الذي يمثل نواة وجوده الذي لا يتأثر بالزمن. وهذا الشيء لا يتمثل في الشعور المرتبط بالذاكرة، لأن أحداث الماضي يعتريها النسيان، والذاكرة معرضة للتلف بسبب الشيخوخة أو المرض. من هنا يرى شوبنهاور أن أساس هوية الشخص ونواة وجوده تتوقف على الإرادة التي تظل ثابتة وفي هوية مع نفسها، وهي التي تمثل ذاتنا الحقيقية والمحركة لوعينا وذاتنا العارفة.
                            ІІ- الشخص بوصفه قيمة:            
      *إشكال المحور: ما الذي يؤسس البعد القيمي- الأخلاقي للشخص؟ ومن أين يكتسب قيمته   
                           الأخلاقية من ذاته أم من علاقته بالآخرين؟
                   1- موقف كانط : للشخص قيمة مطلقة في ذاته.                           
يعتبر كانط بأن الشخص هو الذات التي يمكن أن تنسب إليها مسؤولية أفعالها. من هنا فالشخص هو كائن واع، وهو ما جعله يكتسب قيمة مطلقة في حين لا تتمتع الموجودات غير العاقلة إلا بقيمة نسبية. كما يعتبر الشخص غاية في ذاته، بحيث لا يمكن التعامل معه كمجرد وسيلة. وهذا يعني أنه يمتلك قيمة وكرامة لا تقدر بثمن.
ولكي يحافظ الشخص على احترامه كذات حرة وأخلاقية، يجب عليه أن يتصرف وفقا للأمر الأخلاقي المطلق بحيث يعامل الإنسانية في سلوكه كغاية وليس كوسيلة. هكذا فحرية الشخص عند كانط مقترنة بالتزامه بالأمر الأخلاقي الذي هو قانون عملي كلي ومطلق، يشكل مبدأ موضوعيا للإرادة الإنسانية، ويعامل الطبيعة الإنسانية كغاية في ذاتها.
                  2- موقف غوسدورف: قيمة الشخص لا تتحقق إلا من خلال مشاركته للغير.
بخلاف فلسفة كانط التي تناولت الشخص الأخلاقي من منظور نظري وعقلي مجرد، نجد أن غوسدورف يتناوله من منظور عملي واقعي. هكذا فقيمة الشخص الأخلاقي لا تتحقق إلا من خلال مشاركته للغير وأشكال انفتاحه عليه. فمنذ البدايات الأولى للوجود البشري والإنسان يعيش مع الآخرين ضمن أشكال من التعايش والتضامن التي سمحت للفكر الأخلاقي وغيره أن يتشكل على أرض الواقع. من هنا فالكمال الأخلاقي الشخصي لا يتحقق في مجال الوجود الفردي، بل في مجال الوجود الاجتماعي وفي أشكال التعايش مع الناس.
                             ІІІ- الشخص بين الضرورة والحرية:
          *إشكال المحور: ما علاقة الشخص، بوصفه ذات حرة، بما يحمله من صفات وما
                              يصدر عنه من أفعال؟ هل هي أفعال صادرة عن إرادة حرة 
                             أم محكومة بإشراطات؟ 
                   1- موقف العلوم الإنسانية: الشخص خاضع لحتميات مختلفة.
لقد اعتبر علم النفس الفرويدي بأن نفسية الإنسان تتحدد بشكل حاسم في مرحلة الطفولة، كما أن سلوكاته تقف وراءها نزعات لاشعورية توجه حياته دون أن يشعر. هكذا يحل اللاوعي محل الوعي، ويبدو الشخص خاضعا لنزعاته التدميرية العدوانية التي يختزنها "الهو".
ومن جهة أخرى بينت الدراسات الاجتماعية والأنثروبلوجية أن الكثير من أحاسيس الإنسان وأفكاره وسلوكاته مفروضة عليه من خلال التنشئة الاجتماعية. فالشخص لا يعدو أن يكون نتاجا لتفاعل بنيات وقواعد مؤسسية مختلفة تمارس عليه الإكراه من مختلف الزوايا؛ سواء تعلق الأمر بالبنيات النفسية أو اللغوية أوالمادية والاقتصادي. من هنا فقد انتهت العلوم الإنسانية إلى التأكيد على أن وعي الشخص بذاته يشوبه الوهم والغرور، وتحدثت عن موته واختفائه وسط العديد من المحددات التي تشرطه وتحاصره.
لكن هل يعني هذا غيابا تاما لحرية الشخص في بناء نفسه؟
                 2- الموقف الفلسفي: القول بحرية الشخص في بناء نفسه.  
                   1- موقف سارتر: الشخص مشروع حرية تتحقق بشكل دائم.    
يرى سارتر أن الإنسان كشخص هو مشروع مستقبلي، يعمل على تجاوز ذاته ووضعيته وواقعه باستمرار من خلال اختياره لأفعاله بكل إرادة وحرية ومسؤولية، ومن خلال انفتاحه على الآخرين. ولتأكيد ذلك ينطلق سارتر من فكرة أساسية في فلسفته وهي "كون الوجود سابق على الماهية"، أي أن الإنسان يوجد أولا ثم يصنع ماهيته فيما بعد.إنه الكائن الحر بامتياز، فهو الذي يمنح لأوضاعه معنى خاصا انطلاقا من ذاته؛ فليس هناك سوى الذات كمصدر مطلق لإعطاء معنى للعالم.
إن الشخص هو دائما كائن في المستقبل، تتحدد وضعيته الحالية تبعا لما ينوي فعله في المستقبل.فكل منعطف في الحياة هو اختيار يستلزم اختيارات أخرى، وكل هذه الاختيارات نابعة من الإنسان باعتباره ذاتا ووعيا وحرية.
                        2- موقف عزيز لحبابي: تصطدم حرية الشخص بشروط موضوعية. 
يذهب لحبابي إلى أن كل فعل إنساني هو فعل قصدي يرمي إلى تحقيق نوايا وأهداف واعية. وهذا يستلزم من الذات الإنسانية تفهم الشروط الموضوعية والوسائل الكفيلة بتحقيق ذلك الفعل. وهذه القصدية الواعية هي التي تضفي طابع الحرية على الفعل الإنساني، وتجعله يتميز عن الأفعال الآلية الصادرة عن دوافع غريزية كما هو الشأن عند الحيوانات.
هكذا فالكائن الإنساني يسعى إلى شخصنة أفعاله بما هو ذات حرة، وذلك بالسعي نحو اكتساب صفات تميزه كشخص وتضفي على أفعاله قيمة وغائية إنسانية. وبقدر ما أن الشخص حر ويسعى إلى تحقيق ذاته بحسب ما يريده في المستقبل، فهو أيضا ملزم أمام نفسه وأمام المجتمع، أي أن له قضايا إنسانية واجتماعية يضع نفسه في خدمتها. من هنا فإذا كان الشخص حرا وتتسم أفعاله بالقصدية، فإن حريته تصطدم بمحك الواقع وتختبر نفسها داخله؛ إذ لا بد للشخص أثناء إنجازه لأفعاله وتقريره لمشاريعه أن يتفهم شروط وجوده الواقعية.
هكذا فالحرية حسب عزيز لحبابي، ليست مجرد حرية نظرية ذاتية، بل إنها حرية مجتمعية وتاريخية، إنها حرية ملتزمة بقضايا المجتمع والآخرين.



الحقيقة

 ذ. محمد الشبة

 تقديم:
يحيل مفهوم الحقيقة على معنيين رئيسيين هما: الواقع والصدق. وهي بذلك تأتي في مقابل الوهم والكذب. هكذا فالفكرة الصادقة والحقيقية هي تلك التي تعبر عن حكم مطابق للواقع الفعلي. كما تعتبر الحقيقة كل فكرة تمت البرهنة عليها عقليا ومنطقيا. من هنا يتم الحديث عن الحقيقة في مجالات متعددة: دينية وعلمية واجتماعية...الخ. وفي جميع الأحوال، فالحقيقة يتم التعبير عنها دائما بواسطة اللغة والخطاب، والإنسان دائم البحث عنها، وهو يستخدم في ذلك عدة وسائل وطرق. فما هي طرق الوصول إلى الحقيقة؟ هل طريق بلوغها هو الرأي أم العقل؟ وكيف يمكن التمييز بين الخطابات التي تعبر عن الحقيقة وتلك التي لا تعبر عنها؟ ما هي المعايير التي يجب اعتمادها لتحديد ما هو حقيقي؟ وأخيرا لماذا نبحث عن الحقيقة؟ أين تكمن قيمتها؟  
          І-  الرأي والحقيقة: 
    * إشكال المحور: ما علاقة الرأي بالحقيقة؟ وكيف يمكن التمييز بينهما؟ ما هو الطريق
                         المؤدي إلى الحقيقة؟ هل هو العقل أم الرأي؟
                          1- موقف باسكال:PASCAL         
   يرى باسكال أن العقل ليس هو المصدر الوحيد للحقيقة، إذ أن هناك مصادر أخرى لبلوغها. هكذا يعتبر أن للقلب حقائقه التي يعجز العقل على الاستدلال عليها، وهذا العجز من طرف العقل لا يجب في نظر باسكال أن يجعلنا نشك في حقائق القلب التي هي مبادئ أولى تدرك بشكل حدسي مباشر، وتستنبط منها كل الحقائق الأخرى.
 هكذا يقول باسكال بمبادئ أولية وفطرية،مثل المكان والزمان والحركة والأعداد، وهي مبادئ صادرة عن القلب، كما أنها يقينية وغير قابلة للشك، وهي تشكل الأساس الذي ينبغي أن يستند عليه العقل لاستنتاج الحقائق الأخرى.
  وفي هذا السياق يميز باسكال بين المبادئ الأولية التي يشعر بها القلب، والتي لا يمكن للعقل أن يطالبه بالبرهنة عليها، وبين القضايا التي تستخلص من تلك المبادئ، والتي لا يمكن للقلب أيضا مطالبة العقل بأن يشعر بها.
  هكذا يمكن القول انطلاقا من موقف باسكال بأن هناك آراء واعتقادات صادرة عن وجدان الإنسان وأعماقه دون أن يكون بالإمكان البرهنة عليها عقليا. فهل يتعارض هذا النوع من الآراء ذات الطابع الوجداني والقلبي مع الحقائق العقلية والعلمية؟   
                         2- موقف أفلاطون:   PLATON   
يذهب أفلاطون إلى أن طريق بلوغ الحقيقة هو التأمل العقلي الذي يمكن الفيلسوف من تجاوز الآراء والمعتقدات السائدة، والارتقاء إلى عالم المثل من أجل إدراك الحقائق اليقينية والمطلقة. هكذا فالحواس حسب أفلاطون لا تمدنا سوى بالظلال أو الأوهام، التي هي مجرد أشباه حقائق أو آراء ظنية صادرة عن عامة الشعب، بينما تعتبر الفلسفة هي العلم الموضوعي بالحقيقة، وهي تعتمد على الجدل الصاعد كمنهج عقلي تأملي يتعارض تماما مع الآراء الظنية السائدة.
                        3- موقف باشلار:   BACHELARD       
يميز باشلار بين الحقيقة العلمية والرأي، ويقر بتعارضهما؛ إذ يعتبر هذا الأخير عائقا إيبستمولوجيا يحول دون الوصول إلى المعرفة العلمية الصحيحة.
  هكذا اعتبر باشلار بأن الرأي دائما على خطأ مادام أنه غير قابل للتبرير النظري العلمي،

ومادام أنه مرتبط بالحاجات والمنافع المباشرة، ويعتمد على التلقائية والعفوية في تناوله للأمور. وهذا ما جعل باشلار يتحدث عن قطيعة إبيستمولوجية بين الرأي والحقيقة العلمية، إذ تبنى معارف الفكر العلمي بناءا نظريا وعقليا. كما تخضع لمناهج عقلية ووسائل علمية تمنحها طبيعة خاصة، تجعلها تختلف بشكل جذري عن الآراء العامية السائدة في المجتمع.
   في هذا السياق يرى باشلار أن الفكر العلمي لا يتناول سوى القضايا التي يستطيع البرهنة عليها، كما أنه لا يطرح سوى الأسئلة التي يمكنه الإجابة عنها. وهذا ما يجعل الحقيقة العلمية مبنية ومؤسسة على قواعد العقل العلمي، في حين يسمح الرأي لنفسه بالاعتقاد في كل القضايا وطرح كل المسائل، حتى تلك التي لا يقوى على الإجابة عنها أو التدليل عليها.
 أمام كل هذا وجب حسب باشلار تخطي الرأي والعمل على هدمه حتى لا يشكل عائقا أمام بلوغ المعرفة العلمية الصحيحة.
       ІІ-  معايير الحقيقة:       
                     * إشكال المحور: ما هو معيار الحقيقة؟ وعلى ماذا يمكن تأسيسها؟  
                          1- الموقف العقلاني:   ديكارت واسبينوزا Descartes,Spinoza      
تتعارض الحقيقة عند ديكارت مع الرأي، إذ أنها تعتمد على المنهج وعلى قواعد عقلية صارمة يمكن اختصارها في أربع قواعد رئيسية: البداهة، التحليل، النظام والمراجعة. وتتأسس الأفكار البديهية على مبدأ الحدس، في حين تتأسس الأفكار الأخرى على مبدأ الاستنباط. هكذا يحدد ديكارت للحقيقة معيارين رئيسيين هما: الحدس والاستنباط. والحدس عنده هو إدراك عقلي خالص ومباشر، ينصب على أفكار بديهية ومتميزة في الذهن بحيث لا تحتاج إلى استدلالات عقلية؛ كأن أدرك أنني موجود أو أن المثلث هو شكل ذو ثلاثة أضلاع. أما الاستنباط فهو إدراك غير مباشر للحقيقة، بموجبه يتم استخلاص حقائق جديدة من الحقائق البديهية الأولية على نحو منطقي صارم. ولذلك فالحقائق التي يتوصل إليها عن طريق الاستنباط لا تقل أهمية ويقينية عن الحقائق الحدسية الأولية، ما دامت صادرة عنها بواسطة حركة فكرية مترابطة ومتصلة تفضي إلى نتائج ضرورية.
 هكذا فالحدس والاستنباط هما أساس المنهج المؤدي إلى الحقيقة. وبذلك فمعيار الحقيقة يتحدد أولا في البداهة المرتبطة بالحدس؛ إذ أن كل فكرة بديهية هي فكرة حقيقية تدرك بواسطة الحدس العقلي الخالص، كما يتحدد هذا المعيار ثانيا بواسطة التماسك المنطقي المرتبط بالاستنباط؛ إذ أن كل فكرة منسجمة منطقيا ومتطابقة مع قواعد الاستنباط العقلي تعتبر فكرة صحيحة ومنطقية.
 وفي نفس السياق يحدد اسبينوزا معيار الحقيقة في البداهة التي تتمثل في كون الفكرة الصحيحة تحمل يقينها في ذاتها، إذ أنها تفرض نفسها على العقل بشكل واضح ومتميز لا يتطرق إليه أدنى قدر من الشك. هكذا فالحقيقة هي معيار ذاتها، وهي تشبه النور الذي ينكشف فيؤدي إلى انقشاع الظلام. من هنا يرى اسبينوزا أن الفكرة التامة هي تلك التي تملك في ذاتها كل الخصائص والعلامات الباطنية المميزة للفكرة الصحيحة.
                              2- الموقف التجريبي:  جون لوك J.Locke    
يرفض جون لوك معيار البداهة الذي قال به الفلاسفة العقلانيون كديكارت واسبينوزا، وهذا نابع من رفضه لوجود أفكار أولية وفطرية في العقل. هكذا اعتبر جون لوك أن العقل صفحة
بيضاء وأن التجربة هي التي تمده بالمعارف والأفكار. من هنا فالتجربة هي المعيار الأساسي

والوحيد للحقيقة. فالحواس تمدنا بالأفكار البسيطة كالامتداد والشكل والحركة، ثم يعمل العقل على التأليف بينها لإنتاج الأفكار المركبة كفكرة الجوهر والعلية واللامتناهي. هكذا فكل أفكارنا ذات أصل حسي، والحواس هي التي تمنح لأفكارنا الصدق والحقيقة. وإذا تعذر إرجاع فكرة ما إلى أصلها الحسي التجريبي، فهي فكرة وهمية وباطلة. فمعيار الحقيقة إذن هو مطابقتها للواقع الحسي التجريبي. 
      ІІІ- الحقيقة بوصفها قيمة:
                      * إشكال المحور: لماذا يرغب الإنسان في الحقيقة؟ وأين تكمن قيمتها؟ هل لها قيمة مطلقة أم نسبية؟ نظرية أم عملية؟ 
                         1- الموقف التقليدي: للحقيقة قيمة نظرية وأخلاقية مطلقة:  
يبين لنا تاريخ الفلسفة الكلاسيكية أنه كانت للحقيقة قيمة نظرية مطلقة، وأنها كانت منشودة لذاتها؛ فالفلسفة عند اليونان كانت بحثا عن الحقيقة من أجل الحقيقة وليس لأي أغراض      أومصالح أخرى. وقد جسد سقراط في حياته هذا الأمر؛ إذ تشبث بأفكاره إلى آخر لحظة في حياته حينما سيق به إلى الإعدام وهو متشبث بالحقيقة وساخر من قومه الذين يتشبثون بالأوهام والمعتقدات الباطلة.
 وفي نفس السياق اعتبر كانط أن للحقيقة قيمة أخلاقية عليا ومطلقة وغير مشروطة. وهي بذلك تنشد لذاتها كحقيقة موضوعية نزيهة وبعيدة عن المنفعة والمصلحة الخاصة. فالصدق واجب في ذاته، ويجب على الإنسان أن يقول الحقيقة ويسلكها مهما كانت الظروف والشروط "لأن الكذب مضر بالغير دائما، حتى إن لم يضر إنسانا بعينه فهو يضر الإنسانية قاطبة، مادام يجرد منبع الحق من الصفة الشرعية." 
                      2- الموقف المعاصر: للحقيقة قيمة عملية نسبية.
لقد ارتبطت قيمة الحقيقة في الفلسفة المعاصرة بقيم العصر كالمنفعة والعمل والمردودية والإنتاج، والإلتصاق بالواقع الإنساني. من هنا أصبحت للحقيقة قيمة عملية واقعية من جهة، وقيمة نسبية ومتغيرة من جهة أخرى. وفي هذا الإطار سنقدم تصورين لفيلسوفين معاصرين:
                                   أ- تصور وليام جيمس: W.James     
تكمن قيمة الحقيقة حسب الموقف البرجماتي المعاصر الذي يمثله وليام جيمس في كل ما هو نفعي، عملي ومفيد في تغيير الواقع والفكر معا. من هنا فالحقيقة ليست غاية في ذاتها، بل هي مجرد وسيلة لإشباع حاجات حيوية أخرى. والأفكار الحقيقية هي تلك التي نستطيع أن نستعملها وأن نتحقق منها واقعيا، أما الأفكار التي لا نستطيع أن نستعملها وأن نتأكد من صلاحيتها فهي خاطئة. وعموما، يرى وليام جيمس، أن الأفكار الصادقة هي تلك التي تزيد من سلطاننا على الأشياء؛ فنحن نخترع الحقائق لنستفيد من الوجود كما نخترع الأجهزة الصناعية للاستفادة من قوى الطبيعة.
                                 ب- تصور إريك فايل: ERIC.WEIL    
يرى إريك فايل أن نقيض الحقيقة ليس هو الخطأ بل العنف. لذا فقيمة الحقيقة تكمن في إنشاء خطاب عقلاني متماسك، يلغي العنف لصالح المعنى. لقد حصل تغير في مشكل الحقيقة؛ بحيث لم تعد هذه الأخيرة تتمثل في تطابق الفكر مع الواقع وإنما تطابق الإنسان مع الفكر، أي مع الخطاب المتماسك. فالإنسان يعيش في عالم مليء بالعنف والشقاء والتقتيل والجوع، وعليه أن يفكر في هذا العالم من أجل إنتاج حقيقة ومعنى له، بواسطة خطاب معقول ومتماسك يكون هدفه هو إزالة العنف و تجسيد قيم التسامح والعقل على أرض الواقع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق